55 قمرا فى سماء القاهرة.. معرض الكتاب من ألفية العاصمة القديمة إلى ولادة العاصمة الجديدة.. دُرة تاج «دولة المعرفة» وياقوتة فى سلسلة حضارية أولها نقوش المعابد وليس آخرها نُزهة العائلات فى أحضان الثقافة

الإثنين، 22 يناير 2024 11:15 ص
 55 قمرا فى سماء القاهرة.. معرض الكتاب من ألفية العاصمة القديمة إلى ولادة العاصمة الجديدة.. دُرة تاج «دولة المعرفة» وياقوتة فى سلسلة حضارية أولها نقوش المعابد وليس آخرها نُزهة العائلات فى أحضان الثقافة معرض الكتاب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت القاهرة تحتفل بألفيتها الأولى، المدينة التى ترتاح على جبل شاهق من التاريخ، وتُلخّص شطرا عظيما من هويّة مصر وثرائها الروحى، ومن ذاكرة المنطقة العربية منذ مُفتتح نهضتها إسلامية النكهة وإلى دخولها حداثة القرن العشرين، وبينهما تحوّلات الجغرافيا والبشر بين مدّ وجزر. وقتها قررت مصر أن تحتفل بعاصمتها على أحسن ما يكون، فلم يكن أفضل من الفن والإبداع والثقافة، ازدهرت المسارح والاحتفالات، وكُتبت المسرحيات والأوبريتات الإذاعية، وعُقدت مؤتمرات ومُنتديات بحثٍ وتوثيق، وكان معرض الكتاب.
 
لم يكن التزامن مُصادفة عابرة، فالبلد الذى كان ينفض غبار النكسة عن أكتافه، ويشبّ على أطراف أصابعه باحثا عن هويته وتوازنه النفسى، التمس فى المعرفة والوعى والثقافة ما يستعيد عافية المجتمع ويشدّ أصلاب أهله. ثمة بصمة لا تُنكَر لأهم وزراء الثقافة المصريين وذُروة النضج العقلى فى جناح ثورة يوليو، المُثقف المهم ثروت عكاشة، وبين إنجازات عديدة مُترامية الأطراف وعميقة الآثار، استحدث سوقًا للكتاب والثقافة، وعهد بها إلى واحدة من تلامذة طه حسين وجيل الوسط فى حلقة المدنية المصرية الحديثة، الدكتورة سهير القلماوى. كان المعرض فكرةً ثورية فى سياقها؛ أولاً لأنها مُقاومة ناعمة لانكسار قاسٍ، ثم هى بناءٌ على ركائز حضارية غيّبتها الحوادث عن الروح المصرية، ولأنه وضع المرأة فى مُقدمة الطابور تعبيرًا عن قطيعة كاملةٍ مع ماضٍ رجعى حبسها طويلا وقاوم خروجها إلى الحياة بانغلاقية وعنف. ومن يومها كان الحدثُ ثابتَ مصر الذى لا يهتز؛ اللهم إلا دورة واحدة واكبت ثورة 25 يناير، وحالت الفوضى التى ضربت أوصال البلد دون انعقادها.
 
ينطلق المعرض خلال يومين، مرّت السنوات فازداد خبرةً وتحققا وفاعلية، وما زال الأكبر والأهم فى المنطقة العربية والشرق الأوسط بكامله، والثانى بعد معرض فرانكفورت الشهير. واجه مُنافسة حادة فاقته فى الدعاية والبذخ، وما اهتزّت دعائمه ولا حلّ غيره بديلا عنه. والأصل أنه سوق للكتاب، ومُلتقى للناشرين والقراء؛ إنما فى الجوهر يتجاوز تلك الصفة بكثير، فقد صار محفلاً ثقافيا عريضًا يُقدم قطاعا أفقيا من القماشة المصرية: كُتاب فى مساجلات، وندوات ومناقشات مُعمقة، وقراء يشترون وعوام يتنزهون، وأجيال من الشعراء والفنانين يعرضون أنفسهم على الجمهور المُبتغى، وطابع عائلى بات يُميز الحدث بالخروجات الأسرية الصغيرة والحاشدة؛ ولعل ذلك ممّا يخص «معرض القاهرة» حصرا ويندر أن تلقاه فى أى شبيه آخر.
 
أربع وخمسون دورة حافلة، ونتأهب للخامسة والخمسين، تبدّل فيها الحدث من أرض المعارض القديمة «موقع دار الأوبرا حاليا»، إلى براح مدينة نصر، ثم إلى مركز المؤتمرات الدولية بالتجمع الخامس. تغير المكان وما تغيّرت التفاصيل، فكان وما زال عيدًا سنويا لصُنّاع المعرفة ومُستهلكيها. ذاكرة المعرض تحمل بصمات لامعة لطابور من أساطين الثقافة والإبداع المصريين والعرب، وإلى الآن يجتذب كثيرين من الآباء والأعمدة الراسخة. كانت أمسيات محمود درويش والأبنودى كرنفالاً لا يقل حشدًا عن موالد الصالحين ومواكب الأعياد، وكانت لقاءات نجوم الفن والتمثيل نُسخة مُصغّرة من مهرجانات السينما وحفلات العروض الخاصة، وفى السنوات الأخيرة أثقلت الأيام كاهله وما فقد البريق الذى أصقله بالخبرة المُتجددة، فحلّت فى فضائه أسماء من وزن أدونيس وإبراهيم الكونى وفراس السواح، وآخرين من شرقٍ وغرب.
 
الراصد لأهم ما فى خزانة مصر سيجد الإبداع أولا. من جُدران المعابد ومتون الأهرام إلى آخر كتاب تفصّدت عنه أرحام المطابع، كُنّا دائمًا أمّةَ ثقافة ومعرفة وجمال وإتقان. فى تُراثنا الحى تقف الأقصر فى موازاة القاهرة، والأهرامات تُلوّح من بعيدٍ للعاصمة الجديدة، وكنوز توت عنخ آمون فى حاضنة المتحف الكبير، والكنيسة الأرثوذكسية العريقة كتفا بكتف مع الأزهر، ومُدوّنة المأكل والملبس والفلكلور التى لا حدّ لها ولا حصر، وفى معيّتهم معرض القاهرة الدولى للكتاب. هو أحد إنتاجاتنا الفاخرة الباقية، وأثرٌ يُعبر عن أمّة الروح والعقل بأكثر مما تُعبّر الآثار المادية المتغلبة فى معركة الزمن.. كُل كتاب يُطبَع اليوم أو يُقرأ، حجر فى مدماك فى بناء مصر الحضارى الذى لم ينقطع من طفولتها إلى تمام نضجها، وبانطلاق سوق الكتاب الأكبر والأعرق والأهم والأقوى تأثيرا فى الحاضرة العربية كلها؛ فكأننا نضيف جدارا جديدا إلى بناء عظيم.
لم نكن قطّ بلدَ وفرة أو ثراء، إنما كُنا دائما بلد إبداع وتفوق معرفى، وكلما تدفق كاتب أو زائر أو أسرة على المعرض الذى ينطلق خلال ساعات، يُؤكّدون بالنقش فى لحم الحاضر ما أكدته النقوش البارزة والغائرة فى كل ماضينا الطويل. قال هنرى بريستد إن مصر فجر الضمير، والفجر الذى صنعناه حرفا بعد حرف وحجرا فوق حجر، يتحضر لولادةٍ جديدة على رفوف الكتب. كان على ضفاف النيل قديما، واليوم فى قلب الصحراء التى صارت عُمرانا، ووُلدت على تخومها عاصمة بهيّة جديدة. هنا فى القاهرة، وفى معرضها الأبهى للكتاب.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة