من البديهي أن الشاعر الذي تحركه انفعالات أصيلة تجاه عالمنا المعاصر في لحظتنا الحاضرة حتما ستنتابه مشاعر اغتراب حقيقية إزاء ما يحدث من توجهات ظالمة وممارسات قامعة تمارسها قوى الظلام العاتية التي تحتمي بآلة عسكرية متطورة تسحق إنسانية الإنسان، ولا تبالي بكل قيم الحق والخير والجمال التي هي حلم الشاعر الأصيل في كل زمان ومكان.
هنا تنشأ المفارقة العميقة بين عالم قاهر ظالم ممعن في قسوته وتسلطه وعالم بريء عادل كان يحلم به الشاعر في خياله النبيل المفارق؛ لينشأ عن ذلك ما يمكن أن نطلق عليه ملمح الاغتراب وهو ملمح فلسفي له جذوره البعيدة التي تتجاوز ظاهرة الغربة المكانية وماتقتضيه من نوستالجيا أو حنين للأوطان البعيدة، وتتعدى أيضا ظاهرة الغربة النفسية التي تعتري الإنسان بتأثير من عدم القدرة على الانسجام أوالتوافق مع المحيط الاجتماعي أو العالم المعيش. إنه اغتراب الغاية والعجز عن تحقيق الهوية المبتغاة والعيش في ظل الوجود المشتهى.
لقد أصبح الأمر الآن أكثر قسوة وأشد فداحة فما الذي يمكن أن يفعله شاعر لا يمتلك إلا كلماته ورؤاه وصوره ومجازاته؟
هل يكتفي بأن يظل الصوت الصارخ في البرية، لا تجاوبه سوى الأصداء الخافتة الواهنة، أم يدعي القدرة المفارقة والتفاؤل الساذج الذي يتغنى ببطولات الماضي دون أن يأخد بأسباب التقدم ويكتفي بتذكر مفردات السيف والرمح والخيل والبيداء أم يأوى إلى كهف الذات ويمارس الأنين الصامت المسيج بجدران العجز وانحسار القدرة على التأثير ؟
وبالرغم من كل ذلك على الشاعر أن ينخرط في الكتابة الحديثة ويتمثل رؤاه العصرية، وأن يستمر في تأجيج المشاعر وإشعال الانتماء إلى القضايا الكبرى وإبراز قيم الصمود والتحدي بطرق تتجاوز الأنماط القديمة.
لقد خاطب محمود درويش سميح القاسم ذات يوم قائلا : أمازلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات
إذن كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟
لكنه لم يكف عن كتابة الشعر ولم يتنكب عن حلمه النبيل حتى ولو كانت خيوط الفجر المبتغى تبدو خافتة خلف الظلال البعيدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة