يمتلك المخرج الكبير خالد يوسف لغته السينمائية الخاصة، لغة تشبعت من ماضيها، وسكنت في حاضرها وبشرت بمستقبلها، ثلاثة خطوط رئيسية تراها في غالبية أعمال خالد يوسف، تتجلى للمشاهد في الكثير من المشاهد حينا، وتختفي في تفاصيل الصراع حينا، لكنها لا تغيب أبدا.
تستطيع أن ترى في "يوسف" بوضوح من خلال غالبية أعماله في صورة الواقف على أطلال مصر الجميلة وماضيها القريب، باكيا – مثلما كان يفعل الشعراء قديما- ما مضى من إرث ثقافي واجتماعي وأخلاقي، وفي ذات الوقت يقدم أعماله تتفاعل مع الواقع المعاش بتفاصيله القاسية، فترى الحواري على حالها، واللغة صاخبة معاصرة، والمفارقات الاجتماعية صارخة مجلجلة، أما المستقبل فلا يقدمه بوصفة جاهزة تبشر بقدوم المخلص أو توعد بجنة مشتهاة، لكنه يمنحك الفرصة بأن تكون أنت المخلص بعد أن جعلك ترى الأزمة بكامل تفاصيلها والصراع على أشده.
على هذا الإيقاع الثلاثي (الماضي والحاضر والمستقبل) تسير غالبية أعمال خالد يوسف، وهو ما يجوز لك أن تراه في "دكان شحاتة" أو في "هي فوضى" أو في "كف القمر" أو في "سره الباتع" أو في "حين مسيرة" كما يجوز لك أن تراه أيضا في فيلمه الجديد "الاسكندارني" الذي أعاد فيه الروح لنص الكاتب الراحل الكبير "أسامه أنور عكاشة" كما أعاد سابقا الروح لقصة "يوسف إدريس" في مسلسل "سره الباتع"، وهو على حد قوله في تصريحات سابقة، كان يحلم بأن يخرج عملا من إبداع "عكاشة"، ولم يمنحه القدر هذه الفرصة في حياة كاتبنا الكبير، فأخذ يبحث عن في أرشيفه حتى عثر على ضالته وتمسك بها فكان فيلمه الإسكندراني... أو لم أقل لك أنه يهوى الوقوف على الأطلال؟
تيمة الفيلم الأساسية لا تختلف كثيرا عن تيمات "أسامة أنور عكاشة" المعروفة، فالبطل "بكر الاسكندارني" الذي قام بتجسيده "أحمد العوضي" يريد التحرر من سطوة أبيه "علي الاسكندارني" الذي جسده "بيومي فؤاد" ومن وجهة نظري فإن الاسكندراني الذي يحمل الفيلم اسمه هو الاب وليس الابن كما كنت أعتقد سابقا، فهو الذي يجسد روح الاسكندرية وميراثها المميز، الذي يعيش الحياة "أتنين أتنين" على حد قوله، يسهم في فتح بيوت الغلابة ويصنع الخير بلا حساب ويتقي الله في تجارته، وفي ذات الوقت لا ينسى حظه من الدنيا التي يحبها، فيسهر مع أصدقائه ويحب الغناء والرقص والموسيقى. أما "بكر" الابن، فهو على النقيض تماما، يحمل في داخله صراعا كبيرا وتمردا معلنا على أبيه، فيهوى القتال ويشارك في حلبات الملاكمة، كما لا يشغل باله بالآخرين أبدا، ولا يريد إلا أن يكون سيدا على الجميع مطاعا من الجميع، وقد أسهم "يونس" ابنه عمه الذي جسده "محمود حافظ" في تأجيج روح التمرد على أبيه، فكان يونس هو الذراع اليمنى لعلي الاسكندراني الذي يطيعه في كل شيء، ويساعده في إدارة حلقة السمك التي يملكها، وهو ما يجعل الاب يستغنى عن ابنه ويستعيض عنه بابن أخيه، وما زاد الصراع إثارة أن الاثنين "بكر ويونس" يعشقان فتاة واحدة هي "قمر" التي جسدت دورها الفنانة "زينة".
وفق نظرية "الإيقاع الثلاثي بين الماضي والحاضر والمستقبل" التي افترضناها سابقا يجسد "على الإسكندراني" الماضي بكل سحره وإنسانيته، كما يجسد "الاسكندرية" بتركيبتها الكوزموبوليتانية الشهيرة، وهو وجه حرص اسامه أنور عكاشة على إبرازه في أعماله التي تناولت الاسكندرية مثل الراية البيضا وزيزنيا وغيرهما، كما أولاه خالد يوسف عناية كبيرة بأن أسند دور الرجل اليوناني الذي يقيم في الاسكندرية "يورجو" والذي يجسد هذا الوجه المشرق إلى نجم كبير هو الفنان حسين فهمي فأضاف إلى العمل الكثير من البهجة والاحترافية والأصالة، أما بكر فيجسد العصر الحاضر بكل قسوته وسطحيته وماديته المفرطة، ولعل المفارقة الأبرز بين الاثنين تتجلى في "رمز السكين" الذي يستخدمه "على الاسكندراني" في الرقص فحسب، بينما يستخدمه بكر الاسكندراني في العنف فحسب، ليختتم العمل بالسكين أيضا لكن في هذه المرة على يد الأب الذي يقتل ابنه بعد أن قتل ابنه أخيه واغتصب ابنة صديقه وحول رجاله إلى مدمنين واشترى الحارة كلها بأمواله الحرام التي كسبها من عمله في المافيا بإيطاليا.
من علم النفس إلى الفيزياء، ومن فرويد إلى نيوتن تمضيى قصة الفيلم التي كتبها أسامه أنور عكاشة فالعمل يجسد "نظرية قتل الأب" التي بلورها فرويد في مدرسته التحليلية مستندا على العديد من الأعمال الأدبية الكبيرة مثل مسرحية أوديب أو رواية الأخوة الأعداء، ومستندا أيضا على ميراث الإنسانية الموغل في القدم والذي قدمه بشرح مفصل في كتابه المهم "الطوطم والتابو" حيث كان الأبناء في القبائل البدائية يتآمرون على قتل أبيهم لكي يتخصلوا من قوانينه ومحظوراته، سرعان ما يحيط بهم الندم بعد فوات الأوان، وحينما يفشلون في إعادة الروح إلى أبيهم يتخيلون أن روحه حلت في أحد الكائنات الحية مثل النسر أو النمر أو حتى الهدهد أو الديك، فيقدسون هذا الكائن ويقدمون له القرابين ويبنون له المعابد، فبكر أراد أن يتقل أبيه معنويا بأن يستولي على عالمه ويغيره، وأن يدنس ناموسه الأخلاقي والإنساني، لكنه النهاية تجسد قانون الفيزياء الذي يقول إن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فعلي الاسكندارني يقاوم بكل ما أوتي من قوة للدفاع عن عالمه حتى يضطره الموقف إلى غرس السكين في قلب ابنه، لتتحول النظرية في النهاية إلى قتل الأبن بدلا من قتل الأب.
ولم يكتف خالد يوسف من الوقوف على أطلال الزمن الجميل بالقصة البديعة لأسامة أنور عكاشة ورصد حالة اسكندرية الحالمة وشخصياتها المتفردة فحسب، بل تعمد أن يغلف العمل بإطار موسيقي ذهبي لأغنيات ملهمة تغنت بسحر اسكندرية وفتنتها مثل قمر اسكندراني لكمال الطويل، شط اسكندرية للأخوين رحباني، مدد يا اسكندراني لفاروق الشرنوبي، كما استخدم أغنيات متعددة رصدت حالة الاسكندرية الشعبية الأصيلة مثل الاغاني المستخدمة في الفيلم يا اسكندراني ألحان فاروق الشرنوبى، يا اسكندراني غناء : شفيقه ، وسوق بينا يا اسطى غناء روح الفؤاد كلمات والحان أمين قاعود، وقد ظهرت إمكانيات الموسيقار "يحيى الموجي" في التنويع على هذه التيمات الموسيقية المتوغلة في الوجدان، وأظهرها في ثوب جديد تماما، واصلا إلى روح الجملة الموسيقية ليعيد توزيعها بمفهوم درامي متناغم مع حالة مشاهد الفيلم، وهو في الحقيقة دور على درجة كبيرة من الفنية والاحترافية وهو ذات الدور الذي لعبه الموسيقار الكبير "علي اسماعيل" في الفيلم الخالد "بين القصرين" الذي استلهم فيه موسيقى أغنية "زروني كل سنة مرة" لسيد الموسيقى العربية "سيد درويش".
وكعادته استخدم خالد يوسف إمكانياته الإخراجية الكبيرة في صياغة صورة سينمنائية مبهرة في كل تفاصيلها، فمشاهد اسكندرية القديمة تحمل سمات الأصالة الشعبية الراقية، والحارة التي قدمها في هذا العمل كمسرح لغالبية الأحداث حملت بصمة حارات الاسكندرية الجميلة الموحية، كما قدم حياة القصور والرفاهية التي يعيشها "بكر" بعد أن صار فاحش الثراء بصورة أكثر إبهارا، سواء عن طريق تقديم قصره الفاخر أو ساعاته ذات الماركات العالمية الشهيرة، أو أسطول سياراته الفاخرة، والتي حملت إحداها توقيع زوجته الفنانة التشكيلية العالمية "شاليمار شربتلي" بعد أن عرضت في الكثير من المتاحف العالمية مثل اللوفر وشاركت في الكثير من السباقات الدولية مثل فورميلا وان، مؤسسة لفن "الموفينج أرت".
"دي نوة براني" هكذا وصف الفنان محمود رضوان الذي جسد دور صديق الأب "على الإسكندراني" لبكر وقوانينه الغريبة، وقد أدى الفنان محمود رضوان دورا بالغ الأهمية والحساسية مبتعدا عن الكوميديا التي اشتهر بها، وفي الحقيقة فإني أرى هذه الجملة كواحدة من أهم جمل الفيلم الكاشفة، ولو كان الأمر بيدي لاخترت أن يكون اسم الفيلم "نوة براني" بدلا من الاسكندراني، لأنها تصف الأزمة بكل تجلياتها، كما تكشف مصيرها، فهي في النهاية "براني" مصيرها إلى الزوال، ولعله من المناسب أن نقول هنا إن من أهم مميزات هذا الفيلم هو قدرته الاستثنائية على تقديم العديد من الفنانين بصورة مغايرة، فكشف الفنان بيومي فؤاد عن إمكانيات ممثل قدير، يتقن الأدوار الجادة ببراعة وإلهام، ولا أبالغ إذا قلت إنه استطاع أن يبكي غالبية من شهدوا الفيلم في العرض الخاص خاصة في المشهد الأخير.
أما الفنان أحمد العوضي فقد استغل هذا العمل ليضيف الكثير إلى رصيده الفني، ويتفوق على نفسه في الأداء والتشخيص، وبرغم أنه لم يبتعد كثيرا عن نوعية الشخصيات التي قدمها في الأعمال السابقة، لكنه قدم في هذا الفيلم مفهوما جديدا لنجم الأكشن الذي يمتلك إمكانيات جسمانية مبهرة، ولياقة بدنية عالية، وفي ظني أن العوضي قدم في الاسكندراني نموذجا متقدما في الأكشن يصعب على منافسيه أن يبلغوه، وأجمل في ما مشاهد الأكشن في هذا الفيلم أنها نسيج أصيل في الدراما وليست على الطريقة التجارية المتعارف عليها الآن، التي تكاد تحشر مشاهد الحركة حشرا حتى تنال استحسان شريحة كبيرة من الجماهير، فالبطل يهوى الملاكمة من صغره، وقد كانت الملاكمة سببا في أن يبتعد عن أبيه، وهي أيضا طريقه لاختراق عالم المافيا حينما سافر إلى إيطاليا، وهي أيضا وسيلته لإثبات سطوته على الحارة بعد أن يعود، وقد استطاع مصمم المعارك "محمود طاحون" أن يفجر إمكانيات العوضي الاحترافية في القتال على أحسن صورة، ليقدم صورة أصيلة لا نعتد على رؤيتها في الدراما العربية.
وعلى ما يبدو أن خالد يوسف تيقن قبل بداية العمل أن الموسيقى هي روح الاسكندرية والمعبر الحقيقي عنها، فلم يكتف بأن غلف الدراما بأيقونات الغناء عن الاسكندرية، لكنه أضاف أيضا إلى تلك الحالة بأغنيتين صنعتا خصيصا لهذا الفيلم، ليأتي صوت عبد الباسط حمودة مترنما بكلمات الشاعر الكبير جمال بخيت شريف حمدان وهي أغنية تجسد الصراع المرتبك في الفيلم فيقول " كل اللى عمره بكى .. ممكن يزيح همه/ إلا اللي خاض معركة وقتيله من دمه/ / يخلق من ضهر الحب شيطان/ يخلق من ضهر العقل جنان/ وانا وابنى رمينا النار ف الريح/ ودفنّا ف ارض الخوف مصابيح ..تلاعبنى ياواد ؟! مهزوم .. لجريح ؟!" ففي هذا الصراع الكل خاسر، وفي هذا الصراع الكل جميع مقتول.
لا يفوتني هنا أن أشير بمزيد من التقدير إلى الدور الذي لعبته الفنانة زينة بحرفية وإلى أداء الفنان محمود حافظ المتمكن، فقد قدمت زينة شخصية الحبيبة الوفية لبكر في حالتها الرومانسية الشعبية البسيطة أحسن تقديم، كما قدمت صورة الزوجة المصرية الوفية لبيتها حتى بعد أن علمت أن زوجها "يونس" الذي قام به "محمود حافظ" ضللها وتعمد إبعادها عن حبيبها القديم، أما حافظ فقد أجاد في التعبير عن العديد من المشاعر المتضاربة حيال "علي الإسكندارني" من الحب الشديد إلى الأنانية والحقد.
أما النجم عصام السقا فعلي ما يبدو فقد صار متخصصا في دور "الصاحب الجدع" الذي يرافق البطل ويعينه في تحمل الصعاب وينفذه من المواقف الصعبة، ولم يكتف السقا بهذا الدور بل تعداه إلى القيام بدور صانع الأحداث ومحركها، فأسهم في استقلالية البطل عن أبيه وأشركه معه في تجارة البضاعة المهربة وعاونه الاستيلاء على أموال المافيا وفي النهاية تلقى عنه الضربة القاضية فنال استحسان المشاهدين مشاركا في تأجيج المشاعر قرب نهاية الفيلم.
ومفاجأة العمل السارة بالنسبة لي فهي الفنانة الصاعدة "تسنيم مطر" التي جسدت دور الفتاة "إلينا" ابنه اليوناني "يورجو" التي تقع في غرام "بكر" الاسكندارني" برغم معرفتها بكل عيوبه وسماته الشخصية، وقد أظهرت في الفيلم قدراتها التمثيلية المبهرة، ما بين الرقة الحانية وقوة الشخصية الصلبة، وفهمها للواقع وتمسكها بالحلم، وفي ظني أن هذا العمل منحها الضوء الأخضر لتصبح في المستقبل القريب نجمة السنوات المقبلة.
فيلم الاسكندرانى (1)
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة