بعث الشيخ عمر مكرم من منفاه فى طنطا برسالة إلى صديقه القديم محمد على باشا، يهنئه فيها بانتصاراته على الوهابيين فى شبه الجزيرة العربية، فاهتز محمد على طربا بالرسالة، وسأله حاملها حفيد عمر مكرم عن أحوال جده، وما إذا كان يريد شيئا، وكرر عليه السؤال، لكن الحفيد قال: إن جده لم يذكر له طلبا آخر، وفقا للكاتب محمد فريد أبوحديد فى كتابه «عمر مكرم»، دراسة وتقديم الدكتور أحمد زكريا الشلق.
يذكر «أبوحديد» أن الباشا أرسل أحد أتباعه وراء حفيد عمر مكرم وسأله عما إذا كان جده يطلب شيئا، فتمنع الحفيد فى البداية ومع تكرار السؤال، قال: إن لجده أمنية قديمة وهى تأدية فريضة الحج، ولما علم الباشا أسرع بتلبيتها.
كان عمر مكرم يعيش سنوات منفاه رغم زعامته لثورة المصريين التى جاءت بمحمد على إلى الحكم فى مايو 1805، لكن الود لم يدم طويلا، وحسب عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»، فإن الباشا قرر عزل عمر مكرم من نقابة الأشراف ثم نفاه إلى دمياط، وعاش فيها تحت المراقبة والحراس يلازمون له إلى أن تشفع له قاضى قضاة مصر «صديق أفندى» لدى محمد على، فأذن له بالانتقال إلى طنطا بعد أربع سنوات فى دمياط.
يضيف «الرافعى»: فى ديسمبر 1818، طلب عمر مكرم الإذن له أن يؤدى فريضة الحج، وكان محمد على قد بلغ قمة المجد والسلطة، وقهر الوهابيين، وذاع صيته، فتذكر المنفى العظيم الذى كان له أكبر الفضل فى إجلاسه على عرش مصر، فتلطف بقبول طلبه، وأذن له بالذهاب إلى القاهرة، ويقيم بداره إلى أن يجىء آوان الحج، وذكر صديقه القديم بالخير، وقال لجلسائه: «أنا لم أتركه فى الغربة هذه المدة إلا خوفا من الفتنة، والآن لم يبق شىء من ذلك، فإنه أبى، وبينى وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف».
يذكر «الرافعى»، أن محمد على بعث بكتاب لعمر مكرم يحتوى على أرق عبارات الاحترام والتبجيل، ويقول فيه: «مظهر الشمائل سنيها، حميد الشؤون وسميها، سلالة بيت المجد الأكرم، والدنا السيد عمر مكرم، دام شأنه، أما بعد فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف، تهنئة بما أنعم الله علينا، وفرحا بمواهب تأييده لنا، فكان ذلك مزيدا فى السرور، ومستديما لحمد الشكور، ومجلبة لثناكم، وإعلانا بنبل مناكم، جزيتم حسن الثناء، مع كمال الوقار ونبل المنى، هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذن فى الحج إلى البيت الحرام، وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام، للرغبة فى ذلك، والترجى لما هنالك، وقد أذناكم فى هذا المرام، تقربا لذى الجلال والإكرام، ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام، فلا تدعوا الابتهال، ولا الدعاء لنا بالقال والحال، كما هو الظن فى الطاهرين، والمأمول من الأصفياء المقبولين، والواصل لكم جواب منا خطابا إلى كتخدائنا، ولكم الإجلال والاحترام، مع جزيل الثناء والسلام»، حمل حفيد عمر مكرم واسمه صالح خطاب الباشا إلى جده، ويذكر «الرافعى» نقلا عن «الجبرتى»: «أرسل محمد على إلى كتخدائه يبلغه الأمر، وأشيع خبر مقدمه، فكان الناس بين مصدق ومكذب حتى وصل إلى بولاق، السبت 12 ربيع الأول 1234 هجرية، الموافق 9 يناير، مثل هذا اليوم، 1819، ومن هناك توجه لزيارة الإمام الشافعى، ثم القلعة، وقابل الكتخدا وكان محمد على بالإسكندرية، وهنأه الشعراء بقصائدهم، وأعطاهم الجوائز، واستمر ازدحام الناس أياما، ثم امتنع عن الجلوس فى المجلس العام نهارا، واعتكف بحجرته الخاصة، فلا يجتمع عنده إلا بعض من يريدهم من الأفراد، فانكف الكثير عن التردد عليه، وذلك من حسن الرأى».
يستخلص «الرافعى» من رواية الجبرتى، أن منزلة عمر مكرم فى قلوب الشعب بقيت كما كانت، ورجع عظيما كما كان قبل نفيه، ولولا ذلك لما هنأه الشعراء بقصائدهم وازدحم الناس على داره، ومن المحتمل أن هذه المظاهرات لم ترق لأصحاب السلطة وقتئذ، ولا يبعد أن يكون بلغ عمر أن مثل هذه المظاهرات مما يؤخذ عليه، فآثر الاعتكاف فى داره، فكان ذلك من «حسن الرأى» كما يقول «الجبرتى».
يؤكد «الرافعى» أنه بالرغم من شيخوخة عمر مكرم واعتكافه بمنزله بمصر القديمة «ساحل أثر النبى»، فإنه كان مصدر قلق لمحمد على، وحدث أن قامت فى القاهرة سنة 1922 فتنة هاج فيها السكان بسبب فرض ضريبة جديدة على منازل العاصمة، وارتاب محمد على فى أن يكون لعمر مكرم يد فى تلك الفتنة، فأرسل رسولا يأمره بمغادرة القاهرة إلى طنطا، فأبدى عمر مكرم استعداده بعد أن يعد مركبا ينقله، فأخبروه أن المركب معدا لهذا الغرض فى ساحل مصر القديمة، ورحل إلى رحلة منفى جديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة