محمد عبد الرحمن يكتب: أغنية الوداع.. رصد فنى لـ إحساس النهاية

الثلاثاء، 01 أكتوبر 2024 03:00 م
محمد عبد الرحمن يكتب: أغنية الوداع.. رصد فنى لـ إحساس النهاية جانب من العرض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كتب أنطون تشيخوف (1860-1904)، مسرحيته الشهيرة "أغنية البجعة" قبل أكثر من 130 عاما وبالتحديد سنة 1887م، وكانت على نمط مسرح الـ"فودفيل"، مستفيدًا فيها من الرمزية الدائرة حول عنوان المسرحية، والذى جاء كتعبير مجازى يرمز إلى آخر عمل أو جهد قبل الوفاة أو الرحيل، ويعود هذا التعبير إلى اعتقادٍ إغريقي قديم مفاده أن البجع يغني قبل لحظات من موته بعد أن ظلَّ صامتاً طيلة حياته، بوصفه كائن هامس طوال حياته، إلاّ أنه يغني أجمل أناشيده حين يرى الموت.

وأغنية البجعة واحدة من أكثر نصوص تشيخوف معالجة فنيا سواء مسرحيا أو تليفزيونيا أو سينمائيا، حيث قدمته المخرجة السعودية هناء العمير من قبل في فيلم قصير، وقدم مسرحيا بأكثر من معالجة وشكل، آخرها في عرض "فريدة" للممثلة القديرة عايدة فهمي، والذي عرض على مسرح الطليعة بالقاهرة، واستمر عرضه لعدة مواسم، ومن المعالجات الأخيرة التي قدمت عن النص هو عرض "أغنية الوداع" للمخرج طلال قمبر البلوشي، والذي عرض ضمن فعاليات مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة في دورته الحادية عشرة.

في النص الأصلي الذي كتبه تشيخوف تحت عنوان "أغنية البجعة"، دارات الأحداث حول ممثل يجد نفسه وحيداً مع ملقن بعد انتهاء العرض المسرحى، فيستعيد رحلته الفنية الحافلة، ويتحسر على أنها انتهت، أو أوشكت على النهاية، فكأن النص، وتالياً العرض الذي بني عليه، بمثابة أغنية وداعه الأخيرة، وهي تقترب من نهايتها، فهي ترمز إلى الظهور الأخير للفنان المسرحي في آخر عروضه.

وفي المعالجة التي قدمها المخرج طلال قمبر البلوشي، لم تختلف كثيرا عما جاء في نص تشيخوف الأصلي، حيث التزم إلى حد كبير بالحبكة الدرامية التي صاغها الأديب الروسي، إلا أنه أضفى أبعادًا أخرى تخدم فكرته الدرامية وصورته البصرية لإضافة لمسة جمالية على العرض المسرحي، وجاءت الأحداث حول ممثل مسرحي "فاسيلي" تقدم به العمر وانحسرت عنه الأضواء وبعد الاحتفال بآخر ليلة عرض له يبقى وحيدا فيتذكر أيام مجده الفني وأدواره العظيمة التي قدمها على خشبة المسرح ويتذكر حرارة تصفيق الجمهور له،  ويدخل عليه الملقن "نيكيتا" الذي لا مأوي له سوى غرفة الملابس لينام فيها، ويتوسع الحوار بينهما فيحكي الممثل تجربته مع الخشبة والنصوص والجمهور على مدار سنين عمره كما لو أنها ما عادت له أو كشيء ما عاد يخصه.

العرض منذ البداية جاء متشابكا مع الواقع، ناقدا له، معبرا عن ديمومة الحياة وعدم ثباتها على حال، فالممثل هنا ربما لم يكن سوى صورة للإنسان المعاصر، عن تلك الأحداث الرائعة التي تتسرَّب من بين أيدينا بسرعة مخيفة، وذلك الوهم الشديد الذي يجعلنا نشعر وكأن تلك الأوقات ستدوم أبد الدهر، لكنها سرعان ما تنتهي.. عن فكرة التقدم في العمر، والسير تجاه المجهول كلما زاد الزمن من هرولته، حول مفهوم الحياة، وكيف أننا نحيا فيها ونعجز دون أن ندركها كما ينبغي، وهل هي شيء يمرُنا ونمرُه، أم حال تعترينا؟ تمضي دون أن نحتفظ بها مثلما نحتفظ بثيابنا وأشيائنا العتيقة؟"

يبدأ العرض بدخول فاسيلي في ظلام دامس، لا ينيره سوى كشاف صغير في يد فاسيلي ينير به وجهه، ويتحدث مخمورًا، يظهر فيها الممثل العجوز "فاسيلي" وقد تملكته حالة شعورية هي مزيج من اليأس والاستياء والعزلة، فهو يشعر بأن المجتمع لا يقدر فنه ولا يحترمه، بعدها ينادي على نيكيتا، الذي يدخل عليه بملابس النوم، في تعبير أنه يعيش هنا، واعتمد المخرج على صورة أقرب إلى السينمائية، إذ ظهر العرض عبارة عن مشهد واحد طويل أو لقطة واحدة «One long shot».

وقسم المخرج الفضاء المسرحي إلى أجزاء خطية، ليصبح الملتقى وكأنه أمام خشبتين مسرح، واحدة يظهر عليها الممثل العجوز الذي يحكي ومأساته ويقابلها أخرى تظهر فيها بعض المونولوجات حيث لجأ المخرج إلى استخدام أسلوب المونولوج لاستعراض شريط الذكريات وحاول التنويع الصوتي والتشخيصي باستحضار ممثل آخر أصغر سنا ليقدم بعض الأدوار التي أداها الممثل العجوز على مدار مشواره الفني من بعض العروض المسرحية مثل ويوليوس قيصر وأدائه لشخصيات أخرى درامية واستحضار طيف حبيبته السابقة، ونجح بهذا التنويع بين الشخصيات في كسر رتابة المونولوج الذاتي، وكذلك لعب التقسيم الذي وضعه المخرج معادلا بصريا يعبر عن الحالة السيكولوجية لأبطال العرض، بحيث يظهر جانب الممثل على حاله ضعفه وإحساسه بالتصاغر، وآخر يظهر فترة حيويتها وطاقتها كممثل محبوب من الجمهور.

وبرع الممثل محمد أنور حمزة، في تجسيد دور الممثل المتداعي، عبر مجموعة من العناصر الأدائية الدالة، على مهاراته العالية في فن الإلقاء والتشخيص، عبر عدة ايماءات حركية وانحناءة في الظهر تحوله إلى عجوز شاحب، ونجح في التنقل بين الشخصيات والأدوار التي يؤديها تبعًا للحالة التي يُمثلها، بحيث يجعل المشاهد ينسى أنه أمام شخص واحد، بفعل هذا التلوُّن في تعبيرات الوجه ونبرات الصوت وحركة الجسم.

بشكل عام قدم المخرج طلال البلوشي، معالجة منضبطة إلى حد كبير، وأن شابها بعض العوار في فيما يخص استخدام بؤر الإضاءة وتوظيف الأساس المسرحي، محاولا الإجابة عن تساؤلات حول مفهوم الحياة، والتقلبات التي يعيشها الإنسان في مختلف مراحل حياته، مقدما صورة أكثر عمقا عن مأساة الفنان الذي يفقد بريقه بمجرد تقدمه في العمر، وربما حاول تقديم صورة عن الصورة النمطية التي يحملها البعض عن الفن بأنه عنصر ترفيه يجلب المتعة والراحة، والتي تعتبر مهنة التمثيل شيئاً تافهاً وأن الممثل مجرد بهلوان، مقدما صورة تتفق مع رؤية الفيلسوف "آلان دو بوتون" بأن الغرض الرئيسي من الفن الرئيس هو تعويضنا عن الشعور بالنقص النفسي، وإسكات هواجس عدم الكمال.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة