ازدحم الناس فى محطة السويس لتوديع أحمد عرابى إلى القاهرة، بعد يوم من عودته من منفاه بجزيرة سيلان والتى قضى فيها أكثر من 19 عاما، وكان معه زملاؤه الست من قادة الثورة التى فشلت بالهزيمة من الإنجليز فى «التل الكبير» يوم 13 سبتمبر 1882، ليبدأ بعدها الاحتلال الذى دام 72 عاما.
يذكر عرابى فى الجزء الثالث من مذكراته «كشف الستار عن الأسرار فى النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية»، تحقيق الدكتور عبدالمنعم الجميعى: «فى أول أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1901 برحنا السويس ووصلنا إلى القاهرة قبل الغروب، وكان ازدحام الناس لتوديعنا فى محطة السويس عظيما، وكذلك كان استقبالنا فى الزقازيق وبنها وخصوصا فى القاهرة، فإن اجتماع الناس بلغ حده الأقصى بالرغم من تنبيه المحافظ الشديد بعدم التجمهر والاحتفاء، ولما نزلنا فى محطة القاهرة أخذنا المركبات إلى منزل أولادى بشارع الملك الناصر فى شارع خيرت، واجتمعنا بهم بعد غيابى تسعة عشرة عاما وأربعة أشهر».
عانى «عرابى» مآسى إنسانية بالغة، واجه التجاهل، والنكران، والفقر، ويذكر محمود الخفيف فى كتابه «أحمد عرابى - الزعيم المفترى عليه»: «أحس أنه غريب فى وطنه، فقد أنكره أكثر من كانوا يلتفون حوله إبان سلطانه، ومنهم من كان يود لو وجه إليه حينذاك نظرة، أو حياه بتحية»، ويكشف هو فى مذكراته أنه فى يوم عودته، كان الخديو «عباس الثانى» عائدا من مصيفه فى أوروبا إلى الإسكندرية فرأى أن يتقدم إليه بالشكر، ولم يهتم الخديو، يقول: «حررنا تلغرافا إلى رئيس الديوان الخديوى نشكر فيه الحضرة الخديوية على منحها إيانا نعمة العودة إلى وطننا العزيز، ونطلب الترخيص لنا فى الذهاب إلى الإسكندرية، للتشرف بمقابلة الخديو المعظم وتأدية واجب الشكر لجنابه الكريم بنفسى، ولكن مع الأسف العظيم لم يحز هذا الطلب قبولا».
وزار كل من رئيس مجلس النظار مصطفى باشا فهمى، وناظر الخارجية بطرس باشا غالى، وناظر المالية أحمد باشا مظلوم، وناظر الحقانية إبراهيم باشا فؤاد، وناظر الأشغال والمعارف حسين باشا فخرى فى بيوتهم، وزار ناظر الجهادية عبانى باشا فى ديوان الجهادية، ووكيل المالية المستر ميشل، ومستشار المالية السير غروست، ثم اللورد كرومر فى الوكالة الإنجليزية، لكن وحسب تأكيد «الخفيف»: «لم يرد أحد ممن زارهم فى بيوتهم له الزيارة، وخشى كبار الموظفين الاتصال به، وإلا أغضبوا الخديو، وأصدر كرومر أوامره للوزراء ألا يتصل به أحد».
أما ألمه الأكبر فكان فى تجاهل رفاق الثورة وأصدقاء الحياة له، ويذكر الخفيف: «كان فى مقدمة الذين تنكروا له، على فهمى باشا زميله فى الثورة والمنفى، وإبراهيم باشا فوزى مأمور ضبط القاهرة إبان الثورة، والشيخ محمد خليل الهجرسى الصديق الوفى، والزبير باشا، ومحمد بك الزمر والسيد باشا شكرى المهندس، وأحمد بك ناشد مدير الشرقية أثناء الحرب، ورزق حجازى بك من رجال الثورة، وعبدالحميد باشا العبادى، وأحمد حمدى باشا، والشاعر حافظ بك إبراهيم، والدكتور محجوب ثابت، ومحمد بك أبوشادى، وعلى بك آصف، ولم يزره محمود سامى البارودى إلا بعد عودته بأسبوع، ولم يزره بعدها أبدا»، وكان البارودى منفيا معه 16 عاما، وعاد يوم 12 سبتمبر 1899.
كما فتحت جريدة «اللواء» برئاسة مصطفى كامل، النار عليه، ونشرت فى 29 سبتمبر 1901 قصيدة «عرابى وما جنى» لأمير الشعراء أحمد شوقى وفيها: «صغار فى الذهاب وفى الإياب/ أهذا كل شأنك يا عرابى؟»، وحسب «الجميعى»: «اتهمه مصطفى كامل بالجبن، وبأنه أدخل الاحتلال قاصدا متعمدا، كما أطلق على ثورته «الفتنة العرابية» وفى 3 أكتوبر 1901 كتب فى «اللواء»: «ما عار الاحتلال، وما عار الجهالة والتأخر وعار الفقر بشىء يذكر إذا ما قورن بالعار الذى يحمله عرابى، ويقرأه الناس على وجهه أينما سار وأينما حل، وأى عار أكبر من عار رجل تهور جبانا واندفع جاهلا، وساق أمته إلى الموت الأدبى والاستعباد الثقيل».
رد عرابى: «لم يرق فى نظر خصومنا الجهلاء رجوعنا إلى وطننا العزيز لظنهم أننا بعنا وطننا إلى الإنجليز على اتفاق بيننا وبينهم، فأوعزوا إلى الجرائد المأجورة وفى مقدمتهم جريدة «اللواء»، فوجهت إلينا سهام جهلها وأماطت عنها لثام الوطنية».
وفيما كانت «اللواء» تسحب أى رصيد وطنى من عرابى، كانت معاناته تتواصل إلى حالة «ضيق ذات يده، فالمعاش لم يكن يكفيه هو وأسرته الكثيرة العدد»، حسب تأكيد محمود الخفيف، وكان من نتائج الشحن ضده وحسب صلاح عيسى فى كتابه «الثورة العرابية»: «قبل أن يموت عرابى بشهور كان خارجا من المسجد الحسينى عقب صلاة العشاء فى إحدى ليالى رمضان، فإذا بشاب يبصق فى وجهه صائحا «يا خائن» ومسح الرجل وجهه، وأغلق باب منزله على نفسه شهورا طويلة، ويوم مات لم يجد أهله فى بيته نفقات جنازته وتجهيزه فكتموا نبأ الوفاة إلى اليوم التالى، حيث كان مقررا أن تصرف المعاشات قبل موعدها لمناسبة حلول عيد الأضحى، وخرجت إحدى الصحف تكتب فى مكان متواضع: «علمنا أن المدعو عرابى صاحب الفتنة المشهورة باسمه قد توفى أمس».
يعلق «عيسى»: «الذى بصق فى وجه عرابى، والذى نشر نبأ نعيه، والذى تركه يعانى الحاجة، لم يكن مصر، ولكنه جزء من أمة الخيانة، جزء من مصر المحتلة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة