عندما نرغب فى ذم شخص أتى بعض أفعال سوء الخلق، نصفه بأنه «ناقص»، كذلك القاتل المتطرف، غالبا ما يكون «إنسان ناقص » قرر أن يعالج شعوره المرضى بالنقص من خلال ممارسة العنف ضد الآخرين.
وبعيدا عن استخدام النقص للذم، فإن الواقع يقول إن كل البشر ناقصون بشكل أو بآخر، فكل منا تنقصه أشياء ما ويسعى لإشباع الاحتياج لها من الاحتياجات الأولية من طعام وشراب وغذاء ومسكن إلى الاحتياجات التالية، مثل الشعور بالأمان، والصداقة، والتقدير، وتحقيق الذات وغيرها، هذا الاحتياج هو ما يحرك حياة الإنسان، ويدفع البشر للتشارك وتبادل الخدمات وبالتالى بناء المجتمعات وتطورها.
الطبيعى أن يسعى الإنسان لسد نقص احتياجاته بالعمل المشروع والاجتهاد والتفكير فى حلول مبتكرة سوية لمشكلاته، أما المتطرف فهو يحاول «التحايل» على نقصه بأساليب أخرى غير سوية بالمرة.
فثمة متطرف يشعر بالعجز عن مجاراة الناجحين فى مختلف المجالات العملية أو العلمية أو حتى الاجتماعية فى مجتمعه، وبدلا من أن يدرس وضعه ومشكلته بشكل عقلانى وموضوعى، ويبحث عن نقاط القصور فيه لمعالجتها، يبدأ فى تفسير قصوره بأن المشكلة فى مجتمعه، فهو- من وجهة نظره-مجتمع جاهلى فاسد لا ينجح فيه إلا الفاسدون المتكالبون على متاع الدنيا الفانى، بينما هو المؤمن والملتزم الحق «القابض على الجمر»، فيتحول إلى ازدراء وكراهية المجتمع والنظر باحتقار لنجاح الآخرين، فهذا الطبيب الفذ «كافر» مصيره جهنم مهما بلغ حجم خدمته المجتمع، وهذه المثقفة «متبرجة» خالفت أمر الله بأن تقر فى بيتها، فعملها محبط، وهؤلاء العلماء «علمانيون» مرقوا عن الدين وانشغلوا بـ «علم لا ينفع» فهم من الخاسرون فى الآخرة.. وهكذا، ويفسر عجزه وقصور إمكانياته عن مجادلة مخالفيه وقرع الحجة بالحجة بأن يغلق باب الجدل والنقاش معهم من الأساس، فلا ينقصه سوى أن «يطور» موقفه من كراهية الآخرين إلى استباحة ممارسة العنف ضدهم ليحمل سلاحا يغتال به مثقفا أو مفكرا يختلف معه ليسكت صوته ويسحق حجته.
غيره يفتقر إلى الشعور بالتقدير الاجتماعى، فلا يبحث عما يستحق به احترام وتقدير محيطه، بل يفسر الموقف منه بأنه بخير والآخرون ليسوا كذلك - وهو الوصف البسيط للتفكير الپارانويدى نسبة لمرض الپارانويا- ويبدأ فى النظر لنقائص وعيوب من حوله- ومن منا يخلو من عيب- واختصارهم فيها، بينما يعظم من شأن مميزاته، فينتهى لأن عجزه عن الاندماج والتفاعل مع مجتمعه سببه اضطهاد المجتمع له «فقط لأنه هو»، ولأنه «مجتمع جاهلى يبغض الصالحين المصلحين»، لا يبقى أمام صناع الإرهاب هنا سوى اصطياد هذا الشخص وإقناعه بأنه يعيش ما عاشه المؤمنون الأوائل من اضطهاد «المجتمع الكافر الجاهلى» لهم، ليتحول إلى مادة خام للإرهابى أو ما يعتقد أنه «المجاهد فى سبيل الله».
وآخر اعتبره الأعظم خطرا، يؤرقه ثقل حمله من الذنوب أو التقصير فى العبادات، ويفكر دوما فى الحساب والعقاب، وبدلا من أن يسلك المسلك المباشر بأن يستغفر الله ويجاهد نفسه ليستقيم، يختصر الله فى أنه «شديد العقاب » ويغفل عن أنه «تواب رحيم»، فيبدأ من ناحية فى إلقاء تبعة فساد أمره على المجتمع بدلا من أن يتحمل مسؤولية أعماله واختياراته، فيصم المجتمع بالفساد والإفساد، ومن ناحية أخرى يفكر فى «خروج آمن» يفلته من الحساب الآخروى، ولما يسمع أو يقرأ أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب يقرر أن عليه أن ينال الشهادة، فيضع كل هذا- كراهية المجتمع وتحميله مسؤولية أخطائه الشخصية مع الرغبة فى الإفلات من الحساب- فى معادلة يبحث بها عن طريق مختصر للشهادة، فيصبح صيدا سهلا لمن يقول له: اقتل هؤلاء أو فجر نفسك فى هؤلاء لتنال الشهادة والجنة.. هذا شخص يبحث عن الموت بالمعنى الحرفى للكلمة، لنفسه وللآخرين.
هذه النماذج هى غيض من فيض، وأحيل القارئ هنا للكتاب الرائع «الإرهابى.. شهوة الدم ولغز الانتحار» لأستاذى وصديقى دكتور ماجد موريس، أستاذ الطب النفسى، الذى حلل فيه ببراعته المعهودة شخصية وتفكير المتطرفين والإرهابيين.
النماذج المذكورة ليست مقتصرة على طبقات اجتماعية معينة، ولا على مستويات علمية بعينها، فبمراجعة الحالات التاريخية التى استعرضناها فى المقال الأول من هذه السلسلة، نرى أنها قد انطبقت على عوام الناس، كالقرامطة والخوارج والمتطرفين اليهود، أو حتى خاصتهم كالقادة الصليبيين والملك النرويجى أولاف تريجفاسون.
وما يزيد الطين بلة أن بعض تلك الحالات قد يتم توجيه تطرفها بشكل جماعى لخدمة قضية عرقية أو قبلية، وإضفاء الطابع الدينى عليها، فإن الآشوريين كانوا يعانون نقص موارد دولتهم مقابل ثراء ما حولها من دول، والخوارج كانت مشكلتهم الرئيسية مع تصدر قبيلة قريش للمشهد، ولهذا لا نستغرب أن فقههم قد أسقط شرط قرشية النسب من شروط الصلاحية للخلافة، والقرامطة كانت مشكلتهم هى مزيج من التعصب العرقى الفارسى ضد العرب، والحقد الطبقى من بعض العوام تجاه علية القوم، وحتى فى تاريخنا المعاصر نرى نموذج حركة طالبان فى أفغانستان التى اتخذت من «الاستحقاق الدينى للحكم» ستارا لهدف فرض سيطرة عرقية البشتون على العرقيات المنافسة من أوزبك وتركمان وطاچيك وهازارا.
لكل هذا أقول بثقة: إن تفكيك الخطاب المتطرف لا بد أن يبدأ بتجريده من غطائه الدينى وكشف دوافعه ومكوناته الدنيوية-المادية والنفسية- لـ «تعريته » أمام الجميع وضرب قواعده من أساسها، فإذا كنا نقول: إن الأديان بريئة من جريرة التطرف والإرهاب، فعلينا أن نؤكد ذلك ليس بالتوعية الدينية فحسب، وإنما بالتوعية التاريخية والنفسية والاجتماعية كذلك، لينكشف التطرف على حقيقته، مجرد ستار هش لعقدة نقص كبيرة!
.تم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة