وليد فكرى يكتب: «أبناء نوت».. إعادة اكتشاف الأساطير المصرية القديمة

الأربعاء، 16 أكتوبر 2024 02:21 م
وليد فكرى يكتب: «أبناء نوت».. إعادة اكتشاف الأساطير المصرية القديمة وليد فكرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى كتابه الرائع «قراءة التاريخ» يقول أستاذنا الدكتور قاسم عبده قاسم إن التاريخ لا يحتاج إعادة كتابة، وإنما يحتاج إلى إعادة قراءة، ولأن الأسطورة هى الجد الشرعى للتاريخ، أرانى أقول أن نفس الشىء ينطبق عليها، فهى تحتاج دائما إلى إعادة قراءة وتأمل وتحقيق، واستخلاص لما بين سطورها من معرفة تاريخية.
يقول بعض الباحثين: إن الأساطير المصرية القديمة ليست بنفس ثراء محتوى أساطير الحضارات القديمة كالحضارات السومرية والبابلية والكنعانية والإغريقية، لكننى - مع كامل الاحترام لكل الآراء - أرى غير ذلك، فما نصفه اليوم بـ«الأساطير» كان بالنسبة للمصرى القديم إيمانا عاش به حياته كلها وأثر فى جميع أنشطته بل والتحم بها، فأسطورة رع/قرص الشمس ورحلته فى مركبه رسمت نشاطه اليومى والموسمى، وأسطورة حابى/النيل حكمت علاقته بالنهر العظيم، الذى أقام على ضفتيه حضارته، وأسطورة ماعت/الحق والعدل والنظام والاستقرار حكمت سلوكه وفلسفة تعامله مع محيطه، وأسطورة أوزيريس ودوات/العالم الآخر انتظرته بعد موته، فكانت حياته بكل ما فيها هى النصف الناسوتى/البشرى من المنظومة الكونية التى تمثل الآلهة وعالمها نصفها اللاهوتى/الإلهى، فلا وجود ولا بقاء لأحد النصفين دون الآخر.

بلى، الأساطير المصرية أكثر ثراء مما نحسب، فقط كانت تحتاج لمن يعيد قراءتها بنفس براعة الكاتب والمترجم محمد جمال فى كتابه الرائع «أبناء نوت وأساطير أخرى.. حكايات مصرية عتيقة».

اعترف بأن لهذا المقال بعدا شخصيا، فـ«محمد» صديق قديم أعرفه منذ كان مراهقا «ولا بد أنه يستنزل على اللعنات وهو يقرأ هذا المقال ويرانى أذكره بالتقدم بالعمر»، وقد شهدت ما قبل تجاربه الأولى ومحاولاته لتحسس طريقه فى مجال الكتابة، ومنذ قرأت ترجمته كتاب «البطل بألف وجه» لچوزيف كامبل، أدركت أنه قد نجح فى تقديم نفسه كإضافة كبيرة للثقافة والمعرفة.

أطمئن القارئ بأن مقالى لن يتضمن حرقا لمحتوى كتاب «أبناء نوت»، فأنا كقارئ قديم ومخضرم أعرف كم أن حرق كتاب لم تقرأه بعد أمر مزعج، ولا أحب أن أرتكب ما أكره أن يرتكب فى حقى.. إذن دعونا نتفق، كل ما يأتى فى هذا المقال هو من المعروف للمطلعين على الأساطير المصرية القديمة، والتحليل لكيفية قيام محمد جمال بإعادة قراءتها وتقديمها.

بداية، أنا معجب بالعنوان «أبناء نوت»، ففضلا عن وقعه الجذاب، فـ«نوت» هى ليست فقط حفيدة الإله أتوم خالق العالم فى المعتقد المصرى القديم، ووالدة الأبطال الرئيسيين للعمل أوزيريس وإيزيس وست ونفتيس «يقدمهم الكتاب بأسمائهم المصرية أوزير وإيزة وست وحوت نبت»، وجدة حرو/حورس، وإنما هى أيضا «السماء»، فالأبطال هنا هم «أبناء السماء» بما فى ذلك الوصف من إبراز للقداسة والألوهة فى مختلف الثقافات.

كذلك فإن العقدة الأساسية للأحداث تبدأ بالفعل بولادة نوت لأبنائها الأربعة السالف ذكرهم، فبعد أن كانت الصراعات تقتصر على الحرب الأبدية بين أتوم/رع والأفعوان الأبدى عبب/أبيب، الذى يمثل صراع النظام الكونى ضد الفوضى، أو القمع لبعض الآلهة الثانوية المتمردة على الخالق والطامغة فى عرشه، أو العقاب للبشر المجدفين بحق الإله «تبا! ها أنا أنذر بالوقوع فى خطيئة حرق الكتاب»، تتصاعد سخونة الأحداث لتصبح حربا مستعرة بين آلهة لكل منها قواها وقدراتها الخارقة وأحزابها وانحيازاتها.

كلنا نعرف أسطورة أوزيريس وست وإيزيس وحورس، العم الشرير الذى يقتل الأخ الطيب ويستولى على إرثه ويضطهد ابنه حتى يشتد عود الابن وينتقم لأبيه وينتزع حقه من غريمه، وهى تيمة صارت من تيمات بعض أشهر الأعمال الدرامية، مثل مسرحية «هاملت» للكاتب الإنجليزى وليام شكسبير والقصص الشعبية مثل «حكاية سعد اليتيم» و«سيرة على الزيبق» وحتى قصة فيلم «الأسد الملك/The lion king»، لكنى أعدك بأن تراها فى كتاب «أبناء نوت» بشكل مختلف عن توقعاتك.

فمحمد جمال لم يكتف بسرد القصة الشهيرة بأسلوب أدبى جذاب- إلى حد أننى كنت كلما قطع شأن عابر قراءتى الكتاب شعرت بضيق شديد- وإنما قدم شخصيات الصراع الإلهى الأسطورى بعمق يجعلك تغوص فى نفسيات تلك الشخصيات، وتدرك بواعثها وعقدها وتطلعاتها ودوافع أفعالها، ليخرجها من التسطيح السابق الذى كثيرا ما حبسها فى إطار «هذا طيب وهذا شرير وكفى» على غرار قصص الأطفال البدائية، ويدفعك لإعادة النظر فى رؤيتك لهم السابقة لقراءتك الكتاب.

ما يحسب كذلك لكتاب «أبناء نوت» هو «التضفيرة»، فكما برعت إيزيس فى ربط ضفائر شعرها، برع الكاتب فى ترتيب عدة أساطير متفرقة فى ضفيرة واحدة متماسكة، ودعنى أشرح لك قصدى من ذلك، فأسطورة أوزيريس وحكمه ثم اغتيال ست له وولادة حورس وتمكنه من الانتصار على عمه، شاعت فى صورة شفهية فى عصر الأسرة الثالثة من المملكة المصرية القديمة حتى تم تجميعها فى عصر الأسرة الخامسة من نفس المملكة، وأسطورة «محاكمة ست» التى - حسب روايتها - قد استغرقت ثمانين عاما بعمر البشر، قد ظهرت فى عصر الأسرة الثانية عشر من المملكة المصرية الوسطى، ويرجح عالم الآثار والمؤرخ سليم حسن أنها كانت إسقاطا على وقائع حقيقية شهدها العصر الإقطاعى الكائن من أواخر عصر المملكة القديمة حتى عصر الأسرة الحادية عشر، حيث ضعفت السلطة المركزية مقابل تصاعد قوة حكام الأقاليم، وأما أسطورة امتلاك إيزيس قوة السحر وتلقبها بـ«سيدة السحر» بعد امتلاكها الاسم السرى للإله «تبا! الحرق! ها أنا أكاد أفعلها مرة أخرى!» فهى أسطورة مستقلة بذاتها، وقيام محمد جمال بهذه التضفيرة البارعة هو مخاطرة كبيرة منه، فإما أن ينجح فى ذلك أو أن ينطبق عليه قول وصف به صديقى وأستاذى دكتور أحمد خالد توفيق، رحمه الله، فيلما ضخم الإنتاج صدر سنة 2008 أن صناعه قد «حاولوا طهو خروف فى إبريق شاى».. والحقيقة أن محمد جمال قد نجح فى مهمته.

ما يزيد إعجابى بالكتاب أن كاتبه لم يترك نفسه يقف عاجزا أمام مشكلة تواجه أغلب الباحثين فى الأساطير القديمة، وهى أن بعض تفاصيلها تكون مجهولة أو مطموسة أو مبهمة أو متناقضة، فتعامل محمد جمال مع تلك المشكلة بأن قام بنفس ما قام به الأقدمون من توظيف مخيلاتهم لملء الفراغات مع التزامه أمانة الاعتراف بذلك للقارئ.

إن كتاب «أبناء نوت» يحعلنى أتساءل: أين الدراما من موروثنا الأسطورى؟ تخيل مسلسلا أو فيلما من نوعية الأنمى/ anime يتناول أسطورة إيزيس من شأنه أن يحقق نجاحا ضخما لو تم تنفيذه كما يجب، ونجاحه لن يقتصر على التسويق للفيلم أو المسلسل فحسب، بل سيتجاوز ذلك الترويج للسياحة، خاصة مع الولع العالمى بالمصريات الذى أراه جزءا من قوة مصر الناعمة الحضارية.

لا أجدنى أبالغ لو قلت إن كتاب «أبناء نوت وأساطير أخرى» ينبغى ألا يقتصر على كونه تجربة ناجحة لكاتب جرىء، بل أن يكون كذلك بداية لاتجاه لإعادة قراءة وتقديم أساطير أجدادنا المصريين القدماء، التى تستحق أكثر مما تنال من اهتمام، ولعلم الأساطير الذى يظلمه الكثيرون باعتباره «مجرد حكايات» أو «علم لا ينفع وجهل لا يضر».










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة