هل ترى عنوان هذا المقال غريبا يحمل معنيين متناقضين، الحرب والسلام؟ قد يبدو كذلك للوهلة الأولى خاصة لأصحاب المشاعر المرهفة الذين يحلمون بعالم يسوده السلام العادل والشامل، حيث يتعايش الجميع فى أخوة أبدية ويرعى الذئب الحملان بدلا من افتراسها، توجه الدول والحكومات كل جهودها وميزانياتها للبناء وتعمير الأرض وتحسين الحياة لبنى البشر والتعاون المتبادل للارتقاء بالحضارة الإنسانية.
دعنى أواجهك بالواقع وأقول لك: لن يحدث هذا، ودعنى أخبرك بالسبب.
منذ بدء الحياة البشرية على الأرض واجه الإنسان نوعان من الشر: الشر الطبيعى المتمثل فى الكوارث والأخطار الطبيعية من زلازل مدمرة وعواصف مخربة وفيضانات جارفة وأوبئة قاتلة وحيوانات مفترسة، والشر البشرى المتمثل فى عدوان الإنسان على أخيه الإنسان فى سبيل السيطرة على الموارد والثروات والنفوذ.
ولأن المجتمعات البشرية القديمة فى نشأتها الأولى قد أدركت وجود الشر البشرى، وتصالحت مع وجوده كأمر واقع، حرصت على تأمين نفسها سواء ببناء الأسوار والتحصينات حول نطاقها، أو بتكليف الأقوياء من شبابها بحماية المجتمع، من القرية للمدينة إلى الدولة، وتأمين ثرواته وموارده.
من هذا المنطلق، نشأت المجموعات المسلحة التابعة لسلطات المجتمعات البشرية من أمن داخلى «الشرطة» وأمن للحدود «الجيش»، وإن لم تنشأ بشكلها المنظم دفعة واحدة بل مرت بأطوار متتالية، من إطلاق النفير العام بين الذكور الأقوياء، وربما النساء أيضا فى بعض المجتمعات، لحمل السلاح فى أوقات الخطر، ثم تخصيص فئة بعينها لذلك يتم حشدها فى وقت التعرض لتهديد ثم تسريحها بعد زوال الخطر، وصولا للجيوش النظامية القديمة والتى تطورت عبر العصور للشكل المتعارف عليه حاليا.
ما دفع الدول للتطور من الطورين الأولان للجيوش، طور النفير العام ثم طور الحشد فى وقت السلم والتسريح فى وقت الحرب، هو إدراكها بالتجارب القاسية أن خطر التعرض لعدوان من هنا أو هناك لا ينتهى طالما بقيت دوافعه قائمة، سواء كانت تلك الدوافع متمثلة فى اضطرار جماعات بشرية-متحضرة أو همجية، للنزوح من أراضيها باتجاه أراضيه بسبب تعرضها لقحط أو مجاعات أو طرد من أراضيها من قِبَل جماعات أخرى، أو أن تتمثل تلك الدوافع، ببساطة، فى الطمع البشرى الدائم فى المزيد من الثروات وتوسيع رقعة النفوذ..
ولأن الحاجة هى أم الاختراع، فقد أدت تلك الحاجة للشعور بالأمان والسلم المجتمعى لتوجه حكومات الدول لامتلاك جيوش دائمة الاستعداد والجاهزية، أو ما يتمثل فى قول حكيم لأحد أباطرة الصين القدامى، إن أجيالا قد لا تضطر للحرب، لكن استعدادها لها هو بالتأكيد أفضل بكثير من أن تفاجأ بتلك الحرب تقرع أبوابها وهى غير مستعدة لمواجهتها.
كانت التجرب المصرية القاسية المؤدية لذلك هى تعرض مصر للاحتلال الهكسوسى فى نهاية عصر المملكة المصرية الوسطى من الحضارة المصرية القديمة، فالهكسوس - أو الـ«حقا خاسوت» بمعنى ملوك الشعوب الأجنبية - كانوا حشدا من الشعوب السامية النازحة من آسيا - تحديدا شمالى بلاد الشام - باتجاه دلتا مصر قرب نهايات عصر المملكة الوسطى، وقد استقروا فى دلتا مصر بإذن من السلطة المصرية، لكن هؤلاء الهكسوس دأبوا على تجهيز أنفسهم بالتدريب والتسليح، حتى إذا ما استشعروا ضعفا من السلطة المركزية، هبّوا فأطاحوا بها وتسلطوا على حكم مصر العليا والوسطى حتى منطقة القوصية من صعيد مصر، واستمر هذا الوضع حتى قيام الملك المحارب الشهيد سقنن رع بحمل راية الجهاد ضد المحتلين، ومن بعده ابناه كاموس ثم أحمس الذى حرر مصر من الهكسوس، وأسس الملوك الثلاثة - بمعاونة الملكات المصريات، توتيشيرى أم سقنن رع وإياح حتب زوجته وأحمس نفرتارى زوجة أحمس - جيشا نظاميا دائم التسليح والجهوزية، لإدراكهم أن المصريون يعيشون فى عالم قاس لا مكان فيه لضعيف.. وقد حافظ ملوك مصر المحاربين فى المملكة المصرية الحديثة، وعلى رأسهم الملوك تحتمس الأول وتحتمس الثانى وأمنحتب الثانى وحورمحب وسيتى الأول ورمسيس الثانى ومرنبتاح الأل ورمسيس الثالث، على تلك السُنة الحسنة، وأصبح لمصر جيش قوى منظم مستعد دائما للذود عن أمنها ووحدة وسلامة أراضيها حتى وإن اضطر للتوجه لأى مكان من الأرض سواء فى شلالات النيل أو وديان وجبال الشام أو صحراء ليبيا. وظهرت بالتوازى مع ذلك فكرة «نطاق الأمن القومى» المتمثلة فى أن وراء حدود الدولة نطاقا واسعا تتأثر الدولة بما يجرى فيه من اضطرابات أو حروب أو موجات نزوح بشرى كبيرة، فأصبح من واجب سلطة الدولة أن تؤمن ما وراء حدودها مهما بلغ اتساع ذلك النطاق طالما أن ما سيجرى فيه سيؤثر عليها بشكل مباشر أو غير مباشر..
ذلك الجيش المصرى القوى كان شريكا فى ازدهار واستمرار الحضارة المصرية، وتحول مصر وعاصمتها التاريخية طيبة - الأقصر حاليا - لمركز عالمى للحضارة الإنسانية، وما كانت الإنشاءات العمرانية والنهضة الاقتصادية والرحلات التجارية الناجحة فى عهود ملوك المملكة المصرية الحديثة - وعلى رأسهم كل من حتشبسوت وتحتمس الثالث - لتقوم لولا وجود تلك القوة الضاربة دائمة الجاهزية المتمثلة فى الجيش المصرى.
وقد اختبرت مصر فى عهد الملكين سالفى الذكر - حتشبسوت وأمنحتب الثالث - ثم فى عهد الملك أمنحتب الرابع، أخناتون النتيجة السيئة لحالة «الاسترخاء العسكرى» التى سادتها، وتمثلت تلك النتيجة فى تآمر امراء الحرب فى الجبهتين الشامية والأفريقية على مصر ومناطق نفوذها، ورعاية الدول المنافسة - كدولة ميتانى فى بلاد ما بين النهرين ودولة الحيثيين فى الأناضول -على الأمن القومى المصرى، الأمر الذى استدعى كفاحا عظيما من الملوك حورمحب وسيتى الأول - الملقب بمجدد ميلاد مصر -ورمسيس الثاني، لإعادة تذكير المشاغبين فى ذلك النطاق بما تقدر عليه مصر من ردعهم بقوة وشدة وغلظة إن لزم الأمر، والمثير للإعجاب التاريخى أن مصر استطاعت تحقيق ذك المطلب بغير التورط فى مذابح أو جرائم ضد الإنسانية، بل على العكس أظهرت للعالم نموذج الدولة التى لا تبادر بالعدوان لكنها لا ترحم المعتدى، وأنها دولة تدرك أن امتلاك القوة هو مسؤولية أخلاقية على القوى، وهو نموذج يحتاج العالم إلى مثله فى أيامنا هذه التى نرى فيها جيشا نظاميا - جيش الاحتلال الإسرائيلى - ينحدر لمستوى العصابات الإجرامية فى ترويع وتهجير وتقتيل الشعوب وتدمير أراضيها تحت أعين المجتمع الدولى، ورغم أنف القوانين الدولية.
وللحديث بقية فى المقال القادم إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة