كان الدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر وزوج ابنة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، يجلس فى مقعده بالأمم المتحدة يوم 27 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1973، عندما أقبل عليه عمرو موسى، وزير الخارجية فيما بعد، ليخبره بأن «المنظمة الدولية»، اختارت طه حسين بين العشرة الذين ستمنحهم جائزة حقوق الإنسان هذا العام، وأن رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة سيبرق إليه يهنئه بالجائزة، ويرجوه الحضور إلى نيويورك فى ديسمبر 1973 ليتسلمها بنفسه، وفقا لما يذكره «الزيات» فى كتابه «ما بعد الأيام».
كان «الزيات» فى الأمم المتحدة منذ 25 سبتمبر 1973 لحضور اجتماعات جمعيتها العامة، وكان عمرو موسى ضمن الوفد الذى يرافقه، وفقا لمذكراته «كتابية»، وكانت حرب أكتوبر 1973 هى الحدث الرئيسى الذى يفرض نفسه على الجميع.
وصلت البرقية إلى طه حسين، ونشرت «الأهرام» خبرا عنها يوم 28 أكتوبر 1973، قالت فيه: «منحت الأمم المتحدة جائزتها فى ميدان الحقوق الإنسانية إلى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، تقديرا له على ما أداه من خدمات فى مجال التعليم، وباعتباره رائدا بارزا فى ميدان الأدب العربى المعاصر، والجائزة أنشأتها الأمم المتحدة العام الماضى فقط 1972، وتمنح كل سنة إلى 6 شخصيات تكون قد ساهمت فى إنجازات كبيرة فى مجال الحقوق الإنسانية».
تضيف «الأهرام»: أعلن نبأ منح الجائزة إلى الدكتور طه حسين، ليرنولدوبيننس، مندوب إكوادور رئيس الجمعية العامة فى دورتها الحالية، والخمسة الآخرين الذين استحقوا الجائزة هذا العام هم «يوثانت سكرتير عام الأمم المتحدة السابق بورما، وولفرد جنكس البريطانى الذى ساهم مساهمة كبيرة فى الحركة العمالية الدولية، وماريا لافال أوربينا، وهى مكسيكية لعبت دورا كبيرا فى الدفاع عن حقوق المرأة، والأسقف أبل موزوريوا من روديسيا جنوب أفريقيا، ويعتبر من أشد المدافعين عن حقوق الأفريقيين، وسير سيوساجور رامجولام، رئيس وزراء موريشيوس».
تؤكد «الأهرام»: «ستقدم هذه الجوائز إلى أصحابها فى احتفال يقام فى الأمم المتحدة 10 ديسمبر المقبل 1973، إلا أن الحالة الصحية التى يجتازها الدكتور طه حسين لن تمكنه من حضور هذا الاحتفال، وسيسلمها إليه على خليل، مدير مكتب الأمم المتحدة بالقاهرة فى حفل يقام فى فيلا رامتان بطريق الهرم، حيث يقيم عميد الأدب العربى، وفى حضور الدكتور عبدالقادر حاتم نائب رئيس الوزراء، والدكتور كامل ليلة وزير التعليم العالى، وعلى عبدالرازق وزير التربية، ويوسف السباعى وزير الثقافة، وكمال رحيم ممثل هيئة اليونسكو فى مصر».
كان حدث الجائزة هو آخر ما استمع إليه عميد الأدب العربى من تقدير دولى له، فشبح الموت كان يقترب، وتكشف زوجته سوزان الأجواء التى أحاطت بتلقيه هذا الخبر، وتذكر فى مذكراتها «معك» ترجمة، بدرالدين عرودكى، مراجعة، محمود أمين العالم: «لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقا ذلك السبت، 27 أكتوبر 1973، ومع ذلك ففى الساعة الثالثة بعد الظهر شعر بالضيق، كان يريد أن يتكلم لكنه كان يتلفظ الكلمات بصبر شديد وهو يلهث، ناديت طبيبه والقلق يسيطر على، لكنى لم أعثر عليه، فركبنى الغم، وعندما وصل كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية، وفى تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التى تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره فى نيويورك فى العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة، وكان الطبيب هو الذى قرأها له مهنئا إياه بحرارة، غير أنه لم يجب إلا بإشارة من يديه، كنت أعرفها جيدا، كأنها تقول «وأية أهمية لذلك؟»، وكانت تعبر عن احتقاره الدائم لا للثناء والتكريم، وإنما للأنوطة والأوسمة والنياشين».
تضيف: «بعد أن حقنه الطبيب بـ«الكورتيجين» وأوصاه بتناول بعض المسكنات الخفيفة فى الليل، غادرنا وهو يطمئننى بأن مريضنا سوف يرتاح الآن، ثم غادرنا السكرتير بدوره فى الساعة الثامنة والنصف، وكذلك الخدم، وبقيت بمفردى معه، كان يريد منى أن أجعله يستلقى على ظهره، وكان ذلك مستحيلا بسبب ظهره المسلخ، وأصغى- وما أكثر ما يؤلمنى ذلك- إلى صوته يتوسل إلى كصوت طفل صغير قائلا: ألا تريدين ؟.. ألا تريدين؟، وبعد قليل، قال: إنهم يريدون بى شرا.. هناك أناس أشرار، سألته: من الذى يريد بك شرا يا صغيرى؟ من هو الشرير؟ أجاب: كل الناس.. سألته: حتى أنا؟.. أجاب: ليس أنت.. ثم يقول بسخرية مريرة: أية حماقة؟ هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟
تعلق «سوزان»: «من المؤكد أنه كان يستعيد فى تلك اللحظة العقبات التى كان يواجهها، والرفض الذى جوبه به، والهزء بل والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك».