في الوقت الذي يتحرك فيه الاحتلال الإسرائيلي بكل طاقته لتوسيع نطاق المعركة التي يخوضها منذ عام كامل، لتتجاوز غزة، نحو مناطق أوسع في منطقة الشرق الأوسط، لتحويلها إلى حرب إقليمية شاملة، تتداخل فيها العديد من الأطراف، بدءًا من لبنان، وسوريا مرورا بالعراق واليمن وحتى إيران، والتي أطلقت مؤخرا هجمات صاروخية، على تل أبيب، تبدو دروس الماضي واضحة لتؤكد حقيقة مفادها أنه لا يمكن أن يتحقق الاستقرار تحت نير الاحتلال، وأن السلام يبقى مرهونا بعودة الحقوق إلى أصحابها، وهو الأمر الذي يمكن استخلاصه من ذكرى انتصار أكتوبر المجيد، والذي فتح الباب أمام عودة سيناء إلى التراب الوطني المصري، لتمهد الطريق نحو السلام، بينما يؤكد في اللحظة الراهنة على أهمية تحقيق حل الدولتين، باعتباره الطريق لتحقيق الاستقرار، وهو ما أكد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته بمناسبة الاحتفال بذكرى انتصار أكتوبر.
ولعل المقاربة بين الماضي والحاضر، تبقى حاضرة بقوة، في ظل الرغبة الإسرائيلية العارمة، في إشعال المنطقة بأسرها بنار الحرب والصراع، والذي لن يؤدي بأي حال من الأحوال، إلى الاستقرار في الإقليم من جانب، أو تحقيق مصالح الدولة العبرية، من جانب آخر، وهو ما بدا واضحا منذ اثنى عشرة شهرا كاملة، حيث تحولت المنطقة إلى ساحة قتال، والأمور مازالت مرشحة للتفاقم، مع دخول أطراف إقليمية أخرى، على خط الصراع، على النحو سالف الذكر، بينما يبقى الداخل الإسرائيلي تحت التهديد، وهو الأمر الذي ربما يشعر به قطاع كبير من المواطنين، في تل أبيب، خاصة بعد أحداث طوفان الأقصى، وما ارتبط بها من سقوط رهائن في قبضة الفصائل، ناهيك عن أعداد كبيرة من القتلى في صفوف الاحتلال، خلال العام.
الحالة الأمنية المتراجعة في تل أبيب، دفعت آلاف المواطنين في إسرائيل إلى التظاهر ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مطالبين إياه بإنهاء الحرب، والرضوخ لنداءات وقف إطلاق النار، لتحرير الرهائن، والحصول على قدر من الاستقرار، إلا أن استدامة الاستقرار، سواء في الدولة العبرية أو في الإقليم يبقى مرتبطا بشكل لصيق بالوصول إلى الحل النهائي، والذي يقوم في الأساس على الشرعية الدولية، التي تعتمد حل الدولتين، من خلال تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة، باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء الصراع.
وأهمية حل الدولتين، تجلت بوضوح في العديد من المشاهد ذات الطبيعة الدولية، منذ بداية العدوان الحالي، فعلى الرغم من إصرار العديد من الدول الحليفة لإسرائيل على حقها في الدفاع عن نفسها، في المراحل الأولى للمعركة، إلا أن ثمة أصوات ألقت باللوم على السياسات التي تتبناها الدولة العبرية، سواء المرتبطة بالاستيطان، او انتهاك المقدسات، ناهيك عن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها بحق آلاف الفلسطينيين، بهدف تقويض أي فرصة لتحقيق الشرعية الدولية، عبر خطة ممنهجة، تهدف إلى التهام الأرض، عبر المستوطنات، وقمع البشر، لإجبارهم على الرحيل، بينما انتهجت سياسات تهدف إلى تهويد القدس والأماكن المقدسة، مما أثار استفزاز آلاف الفلسطينيين، بالإضافة إلى الملايين من خارج فلسطين.
وبالنظر إلى مراحل العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، نجد أن ثمة مواقف دولية عديدة ترجمت الحاجة الملحة للوصول إلى حل الدولتين، والذي يمثل أساسا للشرعية الدولية، بل والسبيل الوحيد للوصول إلى سلام عادل وشامل، وهو ما بدا ليس فقط في محاولات خطابية للضغط على إسرائيل، وإنما في خطوات عملية، تجلت في أبهى صورها على مسارات ثلاثة، أولهما يتجلى في سلسلة الاعترافات بدولة فلسطين، من قبل قطاع كبير من الدول حول العالم، أبرزهم دولا أوروبية محسوبة على المعسكر الموالي لإسرائيل، على غرار إسبانيا والنرويج وسلوفينيا وغيرهم، وهو ما يعكس اعترافا ضمنيا بأهمية وضع الأساس العملي لبناء الدولة المستقلة، من خلال اتخاذ زمام المبادرة لدعم دول الغرب، خاصة في أوروبا ليحذون حذوهم.
المسار الآخر، تجسد في اللجوء إلى القضاء الدولي، من قبل العديد من الدول حول العالم، ليس فقط بهدف الوصول إلى صيغة من شأنها وقف إطلاق النار، ولكن من أجل تقديم الدعم للشرعية الدولية، والقائمة على حل الدولتين، خاصة مع فشل المسار السياسي التقليدي، من خلال مجلس الأمن الدولي، في تحقيق أي إنجاز يذكر في هذا الصدد، وهو ما يمثل في جوهره جانبا آخر لحالة القناعة الدولية بأهمية اتخاذ خطوات للضغط على إسرائيل للقبول بالشرعية التي تمثل الضمانة الوحيدة لتحقيق الاستقرار.
بينما يبقى المسار الثالث متجليا في موافقة الغالبية العظمى من أعضاء المجتمع الدولي، على حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهي الخطوة التي تمثل بعدا مهما في الطريق نحو بناء الدولة المستقلة، وهو ما بدا في تصويت الجمعية العامة على هذا القرار، وهو ما يعكس إدراكا دوليا جماعيا للأهمية الكبيرة لمثل هذه الخطوة من جانب، بينما يمثل ضغطا على القوى المعارضة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي استخدمت حق الفيتو أمام مجلس الأمن الدولي، لتقويض هذا القرار قبلها بأسابيع قليلة.
وهنا يمكن القول بأن حل الدولتين، والذي يمثل المسار الوحيد للشرعية الدولية، يبقى الأساس لتحقيق استقرار مستدام، حيث سيبقى الصراع مرهونا بالأرض، وإقامة الدولة، وهو الأمر الذي ينبغي أن تدركه إسرائيل إذا ما أرادت تحقيق الاستقرار والأمن لمواطنيها، خاصة مع تواتر الأحداث التي تعكس حقيقة أن الفلسطينيين ومن ورائهم الإقليم لن يقبلوا بالرضوخ لميول اليمين الإسرائيلي التوسعية.