الجنون.. تاريخ طويل عرفته البشرية منذ بدايتها، ربطه الناس بالسحر والقوى الخارقة الخارجية، قبل أن يدخل فى دائرة الطب والبحث العلمى، لكن ما الذى يقوله كتاب "تاريخ موجز للجنون" لـ روى بورتر، تحت عنوان "التفكير العقلى حول الجنون".
نظرت الحضارات القديمة، إلى الجنون بوصفه نازلة تتسبب بها قوى فوق طبيعية فرأى المصريون والآشوريون العديد من الأمراض نوازل قذفت من السماء، وعهد بالاستشفاء، استتباعاً، إلى القساوسة - الأطباء الذين لجأوا في سعيهم إلى التشخيص والعلاج إلى الكهنة وتقديم القرابين والعرافة، كما صوّرت الأساطير والملاحم اليونانية الجنون فرأته ابتلاء من الآلهة، فيما عزت المعارف والتقاليد الشعبية المرض إلى الأرواح الشريرة، وأملت في استعادة العافية باستشفاع إله الطب والشفاء، إسكليبيوس. أما الفلاسفة الذين ظهروا في المدن الدويلات الناطقة باليونانية في القرن السادس قبل الميلاد وما تلاه، فقد عاينوا الكون والحياة البشرية، منطلقين من وجهة نظر طبيعية. وأوضح مثال على ذلك هو سقراط عمد، وتلميذه أفلاطون، إلى تحليل مكونات النفس البشرية وهي: العقل والروحانية والعواطف والروح. ومضى تلميذ أفلاطون أرسطو، في المسار ذاته، حين عين الإنسان حيواناً عاقلاً يحيا ضمن نظام الطبيعة، أما برو تاجوروس، فرآه مقياس الأشياء جميعها.
بحث الفلاسفة اليونانيون في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، عقلياً ومنهجياً، في الطبيعة والمجتمع والوعي، سعياً منهم إلى تعمق نظام الأشياء. وجعل هؤلاء المفكرون الفرد العقلاني أو بصورة أدق الذكر المتعلم البارز مثلهم أنموذجا للمبادئ المثالية السياسية والأخلاقية.
ولكنهم لم ينكروا في هذا السياق التمجيدي للعقل، الوجود اللاعقلي، بل إن منجزاتهم ونتاجاتهم التي صاغوها بممارستهم وفكرهم العقلانيين تشير إلى ما كانوا يرونه من أخطار كامنة في العواطف والقوة التدميرية العمياء للقدر. فلا مجال لتخليص البشر من الكارثة سوى بالسعي الهادئ وراء العقل.
وقد أدان أفلاطون (428-348 ق.م)، مثيرات الشهوة بشكل خاص بوصفها العدو الأكبر للحرية والكرامة البشريتين، وكرست الثنائية التي أقامها أفلاطون بين العقلاني وغير العقلاني، أرجحية العقل على المادة وغدت مقولة حاسمة في القيم الكلاسيكية لدى الفلسفات اللاحقة، مثل الرواقية، كما صاغها سينيكا وشيشرون وماركوس أوريليوس، إذ يمكن للعقل أن يحلل عبر معرفة النفس متمثلة في مبدأ هاتف الوحي دلفي، اعرف نفسك)، الطبيعة البشرية، مما يجعله قادراً على قهر مثيرات الشهوة التي تستعيد الإنسان.
ولما كانت الأفلاطونية والفيثاغورية والرواقية وأشباهها من المدارس الفلسفية مرتاعة من القوى الأولية والجبارة التي تعطل عمل العقل، فإنها عرت اللاعقلاني ورأته خطراً وعاراً يتوجب على العقل أو الروح مكافحته ومغالبته. ويكون المفكرون اليونانيون قد حددوا، بإعلائهم منزلة العقل وتثمينهم النظام والمنطق، مشكلة اللاعقلاني للأجيال القادمة، وإن لم يقدموا حلاً لها. وإذ جعلوا الإنسان مقياس الأشياء جميعها، فإنهم أنزلوا الجنون من السماء وأنسنوه.