مارتن لوثر، أحد أشهر المصلحين الدينيين في التاريخ، وفي مثل هذا اليوم سنة 1517 علق وثيقة مكونة من 95 أطروحة على باب كنيسة القلعة في فيتنبرج، وذلك أثناء الفترة التي عرفت باسم الإصلاح البروتستانتي.
ويقول كتاب " مارتن لوثر: مقدمة قصيرة جدًّا" لـ سكوت إتش هندريكس:
لم يكن مارتن لوثر كمفكر سياسي أو فلسفي أول مَن امتلك أفكارًا عصرية، لكنه كان آخِر مُصلِح ديني شهدته العصور الوسطى؛ لأن الإصلاحات التي أجراها نجحت، بينما عجز الآخَرون عن تغيير الموقف العام داخل أوروبا. فلولا قيام "حركة الإصلاح الديني" التي فاقت شخص لوثر وأتباعه الأوائل، لظل لوثر مجرد ناقد آخَر عاثر الحظ للكنيسة الرومانية في العصور الوسطى، وربما كان سيُعدَم شأن غيره من المصلحين المخلصين الذين خلَّفوا ميراثًا متواضعًا على أفضل تقدير.
ففي مدينة فورمس، يُحيي النصب التذكاري الذي يخلِّد ذكراه، كذلك أربعة مصلحين سابقين له تَمَّ إقصاؤهم أيضًا عن الكنيسة الرومانية، أحدهم من منطقة بوهيميا، وآخَر من إيطاليا، وثالث من فرنسا، ورابع من إنجلترا.
ويقف نصب لوثر منتصبًا في المنتصف بما أنه الوحيد الذي صمد في وجه الحرمان من الكنيسة وخطر الإعدام، ليصبح بطلًا في أعين بروتستانتيِّي القرن التاسع عشر الذين شيَّدوا النصب.
وستوضح إشارة بسيطة إلى السابقين لمارتن لوثر السببَ الذي يجعل نجاته من الإعدام ليست سوى سبب واحد من الأسباب التي جعلته الأكثر تأثيرًا من بينهم جميعًا؛ فلم يُطلِق مُصلِح آخَر في العصور الوسطى حركة دينية بلغت المدى الجغرافي وحظيت بالتأييد السياسي الذي استأثرت به «حركة الإصلاح الديني البروتستانتي» في القرن السادس عشر.
كان أقدم أسلاف لوثر الذي احتلَّ اسمُه ركنًا من النصب التذكاري هو بيتر والدو؛ وهو تاجر ثري عاش في القرن الثاني عشر من مدينة ليون الفرنسية، وتصرَّف والدو بناءً على وازعٍ شاع في العصور الوسطى، فتخلَّى عن ثرواته وأملاكه ليحذو حذو المسيح وحوارييه الأوائل كالقديس فرنسيس الأسيزي، لكنه بعكس الأخير لم يتلقَّ قَطُّ هو وأتباعه غير الإكليريكيين (العلمانيون) إذْنًا بابويًّا بإلقاء الدروس الدينية أو تشكيل الجماعات الدينية، ومِن ثَمَّ فقد استهانوا بالسلطة الكنسية، وألقوا الدروس الدينية بدون موافقتها، مستخدمين تراجم جزئية للإنجيل باللهجات المحلية، وفي غضون وقت قصير اكتسبوا أتباعًا في جنوب فرنسا وإيطاليا. وأُعلِنَ أن هؤلاء الولدينيسيين — أو مساكين ليون كما لُقِّبوا — مهرطقين بعد أن انتقدوا بذخ الكنيسة وممارساتها؛ كالدعاء للموتى وتقديم صكوك الغفران، ونُبِذوا من الكنيسة في عام 1184. لكن على الرغم من هذه الوصمة نجا والدو ينيسيون من محاكم التفتيش التي كانت مهمتها معاقبة الهراطقة بالهجرة إلى أجزاء أخرى من أوروبا، مختبئين في وحدات صغيرة بين جبال الألب، وبتأسيس كنيسة متواضعة. وانضم أغلب ينيسيين فيما بعدُ إلى الجناح الكالفيني من حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، لكن هذا لم يحصِّنْهم من النفي والاضطهاد.
واندلعت مذبحة غير مبرَّرة لأتباع الحركة الولدينيسية الإيطاليين في عام 1655، امتدح على أثرها الشاعر جون ميلتون مبادئ أتباع الحركة ومعاناتهم في سونيتته الثامنة عشرة بعنوان "سونيتة مذبحة بيدمونت الأخيرة".
ثاني مَن احتلَّ اسمه أحد أركان النصب التذكاري من أسلاف لوثر هو جون ويكليف، محاضر جامعة أكسفورد (الذي توفي عام 1384). كان ويكليف، الذي عُدَّ لزمن طويل أولَ مترجم للإنجيل إلى الإنجليزية، أقربَ إلى الفلاسفة منه إلى فقهاء الإنجيل أو الناشطين الدينيين، لكنَّ اسمه ارتبط بثورة الفلاحين التي قامت عام 1381، وبجماعات اللولارد السرية التي نشرت تراجم غير مصرَّحة للكتاب المقدَّس لم يكتبها ويكليف بقلمه. شكَّك ويكليف في أحقية الكنيسة في السيطرة على أملاك المواطنين، ورأى أن القس الفاسق يفقد حقه في ممارسة مهامه ويُحتمل أن يُقصَى عن عضوية الكنيسة بمفهومها الحقيقي؛ بمفهومها كمجتمع من المؤمنين الصالحين الذين قدَّر لهم الرب سلفًا الخلاص. واتُّهِم لكل هذه الأسباب ولغيرها بالهرطقة، وأدان البابا وجامعةُ أكسفورد ومجلسٌ كنسي عامَّ معتقداته. ويُرجَّح أن ويكليف أثناء عزلته في مدينة لوتروورث في العامين الأخيرين من حياته عانَى من سكتة دماغية قبل أن توافيه المنيَّة في عام 1384، ودُفِن في فناء الكنيسة، لكن نُبِش قبره وأُخرِجت عظامه عام 1428، بأمر من البابا مارتن الخامس، وأُحرقت وأُلقِي رمادها في نهر السويفت.
صمدَت الكثير من كتابات ويكليف بعد وفاته، ويعود هذا بالأخص إلى الشعبية التي تمتعت بها أفكاره في أوساط الدارسين التشيكيين، الذين درس بعضهم في أكسفورد ونسخوا أعماله وعادوا بها إلى مدينة براج، حيث اطَّلَع عليها جون هَس ثالث أعلام حركة الإصلاح الديني الذين تظهر أسماؤهم على نصب مدينة فورمس التذكاري. كان هس دارسًا وناطقًا شهيرًا باسم أفكار حركة الإصلاح الديني، واختير عام 1402 رئيسًا لجامعة براج، ونُصِّبَ الواعظ الرئيس لكنيسة بيت لحم المموَّلة بتمويل خاص، والتي أُسِّست عام 1391 لخدمة الجامعة وشعب براج. ومن منبرها هاجم هس صكوك الغفران وشراء المناصب الكهنوتية والانتهاكات الأخلاقية البابوية، ورأى — شأنه شأن ويكليف — أن الكنيسة الحقة تتألف من مجتمع من المؤمنين المختارين، وتضمنت أطروحته في هذا الصدد فقراتٍ من كتاب ويكليف، لكن لمَّا عارضَه بقوة أساتذةُ الجامعة الألمان، الذين شجبوا أطروحات ويكليف الخمس والأربعين، خسر في نهاية المطاف تأييدَ رئيس أساقفة مدينته، وأصدر البابا مرسومًا بحرمانه كنسيًّا (طرده من المجتمع الكنسي).
وفي عام 1414 استُدعيَ للمثول أمام مجلسٍ عامٍّ للكنيسة في مدينة كونستانس بجنوب ألمانيا، وفشل الملك سيجسموند في حمايته كما وعد، وسُجِن لعامٍ بتهمة اعتناق آراء ويكليف الهرطقية التي أدانها المجلس الكنسي، وحوكم محاكمة غير منصِفة أُدِين على إثرها، وغُضَّ الطرف عن احتجاجاته. وبعد أن تعرض للسخرية والإذلال لكونه مهرطق، أُحرق على وتد في السادس من يوليو عام 1415، ونُثِر رماده على نهر الراين.
غير أن هس خَلَّف زملاءَ مؤيِّدين وحركة إصلاح حقيقية في مسقط رأسه بوهيميا؛ إذ هبَّ أتباعه التشيكيون وقد ثارت ثائرتهم لإعدامه، وألهبت نيران سخطهم مشاعر قومية ليقفوا في مجابهة ملك تشيكوسلوفاكيا والكنيسة الرومانية، واختاروا كأس العشاء الرباني شعارًا يرمز لمطالبتهم بالخمر الذي حُرِموا منه في قداس العشاء الرباني، والذي اقتصر تقديمه على القسيسين. وأُطلِق على المعتدلين من أتباع هذه الحركة «الأتراكوست» (وهو اسم مشتَّق من اللاتينية يعني «كلا»)؛ لأن أتباعها احتفلوا بقداس العشاء الرباني بتقديم الخبز والخمر كليهما لجميع المتناولين، واستجاب مجلس بازل عام 1431 لمطالبهم، بعد سلسلة من المعارك التي فشلت في قمع ثورتهم، وصمدت جماعتهم تحت اسم الإخوان البوهيميين، مع بقاء عدد قليل من الكاثوليكيين المخلصين للكنيسة الرومانية حتى حرب الثلاثين عامًا (التي امتدت من عام 1618 إلى عام 1648).
اندلعت تلك الحرب بعد أن قذف بعض البروتستانتيين الساخطين مسئولَيْن من الكنيسة الكاثوليكية ومساعدَهما من نوافذ قلعة براج، متهمين إياهم بتقويض حريتهم الدينية، وعلى الرغم من أن الرجال الثلاثة هبطوا على كومة من الروث ونجوا من الموت، قادت تلك الواقعة إلى هزيمة البروتستانتيين ونهاية حركة الإصلاح الديني الهسية.
آخِر أسلاف لوثر الذين صُوِّروا على نصب فورمس التذكاري هو جيرولامو سافونارولا (1452–1498) وهو راهب دومينيكي حرمه البابا أليكساندر السادس كنسيًّا، ثم أُعدِم بعدما ارتدت عليه محاولاته لقلب فلورنسا إلى جمهورية مسيحية ملتزمة، فبعد أن طَردت القوات الفرنسية أسرة ميديشي الحاكمة من إيطاليا، ليخلفها هو كحاكم فلورنسا الفعلي، بذل مع مؤيديه قصارى جهده لقمع الخطيئة والقضاء على صور العبث بالمدينة؛ فأَصدر قوانين تُحرِّم الميسر والإسراف في الملبس للاقتصاد في الإنفاق، حتى إن نساء المدينة تَدفقنَ على ميدانها العامِّ سنة 1497 لإلقاء أدوات الزينة والمرايا والملابس الفاخرة والحلي الباهظة الخاصة بهن في محرقة هائلة أُضرمت في الخلاء، عُرِفت باسم حادثة «حرق الباطل». وبرَّر سافونارولا هذه الإجراءات في عظات حماسية، تستند إلى رؤًى خاصة به، تنبأت بميلاد عصر روحاني جديد، بعد أن تطهَّر العالم من آثامه من خلال المحن الهائلة التي تعرَّض لها. ولما رفض سافونارولا الامتثال لأوامر استدعائه إلى روما، هدَّد بابا الكنيسة الرومانية بحرمان فلورنسا بأسرها من تلقِّي القرابين المقدَّسة. ونظرًا لحرمان شعب فلورنسا من التأييد الفرنسي، انقلب على سافونارولا، واقتحم بعض الغوغاء دير سان ماركو وأسروه مع اثنين من مساعديه، وسلَّموا الثلاثة إلى السلطات المدنية، حيث خضعوا للاستجواب وعُذِّبوا وشُنِقوا جميعًا في 23 من مايو عام 1498 في وسط المدينة، وأُحرِقت جثامينهم.