قالت دار الإفتاء إذا كانت الأم منشغلة بما لا بد لها منه كالعمل الذي تتكسب منه لتنفق به على نفسها وتسد حاجتها، واستطاعت مع ذلك أن تنيب عنها في وقت خروجها من البيت من يقوم لها بأمور الحضانة وواجباتها كأمها أو أختها أو غيرهما ممن يحسن القيام بذلك، حتى إذا رجعت من العمل أحاطت المحضون بعنايتها ورعايتها وأغدقت عليه من حنوها وشفقتها ما تسد به حاجته منها، فلا ينتفي عنها حينئذٍ شرط كونها قادرة على رعاية المحضون ولا يُعَدُّ عملها من مسوغات إسقاط الحضانة عنها، ما دامت مصالح الطفل المادية والنفسية والصحية متحققة ومستقرة، إذ العبرة بالحضانة تحقيق مصلحة الطفل، فمتى تحققت المصلحة وجد معها حق الحضانة كما سبق.
وهذا ما عليه العمل فقهًا وقضاء، حيث نص قضاء محكمة الإسكندرية في الدعوى رقم (212) لسنة 1964م كلي مستأنف على أنه "إذا كانت الحاضنة قد أدخلت البنت دارًا للحضانة في الوقت الذي تكون فيه مشغولة بعملها، حتى إذا عادت منه في المساء أحاطتها برعايتها وقامت على شؤونها فهي مستحقة للحضانة؛ إذ المقرر فقهًا أنه لا يشترط أن تتوفر الحاضنة على خدمة الصغير بنفسها طول الوقت، بل لها أن تباشر تلك الخدمة في بعض الأوقات بواسطة آخر كخادم أو امرأة ذات رحم محرم من الصغير أو دار للحضانة".
ويتحصل مما سبق: أن القول بسقوط الحضانة ليس مرده إلى حال الأم من كونها امرأة عاملة أو غير عاملة، وإنما لأثر ذلك العمل على مصلحة الطفل وعلى القيام بواجباتها نحوه، فإن ثبت أنه يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على مصالحه كأن تتضرر حالته الصحية أو النفسية أو التعليمية، كان ذلك هو السبب في سقوط حضانتها لا مجرد كونها عاملة.
كما أن الواقع يشهد ويؤكد أن هناك كثيرًا من الأمهات العاملات قادرات على تحقيق التوازن بين القيام بعملهن وبين واجبهن اتجاه أطفالهن في البيت، وأن من الأمهات أيضًا من لا تخرج للعمل، ولكنها مع ذلك مقصرة ومضيعة لحق أطفالها لإهمال منها أو انشغال بغيرهم من أمور حياتها، ولأجل ذلك نص الفقهاء على أن عمل المرأة لا يسقط الحضانة عنها وأن ما يسقطها هو ما لزم عنه ضياع الولد وإن كانت مقيمة في البيت لا تخرج منه.
وهو ما أثبته قضاء محكمة الإسكندرية في الدعوى السابق ذكرها حيث جاء في حيثياته أن "المدار في الحضانة هو نفع الصغير ورعاية مصالحه، فكلما تحققت مصلحته لدى الحاضنة تثبت لها الحضانة بصرف النظر عن احترافها، فما كان الاحتراف ذاته جريمة تعاقب عليها المرأة بسقوط حقها في الحضانة خاصة، وأن الإسلام لا يمنع المرأة من الاحتراف لطلب القوت، إنما إذا تعرضت مصلحة الصغير للضياع سقط حق الحاضنة في الحضانة ولو كان انشغالها نتيجة كثرة صلاتها".
والقول بأنه يلزم من خروج المرأة للعمل لساعات طويلة تفويت لحق المحضون أو تضييع له -تحكم لا دليل عليه، وفيه ما فيه من التضييق على الأم التي طلقت فلم يَعد لها من يتحمل نفقاتها عنها، فحملت على عاتقها بذل غاية جهدها في القيام بحق طفلها عليها من الرعاية مع الأخذ بأسباب العيش الكريم من العمل، فكان جزاء ذلك أن تقابل بالحرمان من حقها في طفلها ودورها كأم.
والاستناد على بعض نصوص فقهاء الحنفية التي تفيد إسقاط الحضانة بكثرة خروج المرأة -استدلال في غير موطنه لعدة أمور ومنها:
أولًا: أن هذه النصوص إنما قيلت في واقع يتغاير تمامًا عن واقعنا المعاصر، حيث أصبح عمل كثير من النساء في زماننا من الأمور التي عليها قوام حياتها واستقرار معيشتها، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل في الأزمنة السابقة.
ثانيًا: أن جميع هذه النصوص إنما قيدت إسقاط الحضانة بعملها في حالة أن يلزم عنه تضييع الطفل، وهو ما لا يلزم كما سبق وبينا.
ثالثًا: أن ما أودعه الله تعالى في الأم من حنان فطري تجاه طفلها لا يضاهيه أي شيء آخر، ولا يعوضه عنه حال فقده أي شخص ولو كان أباه، حتى إن الطفل يكتفي وتسد حاجته بقليل يقدم إليه من أمه مع وجودها معه، عن كثير يقدم إليه من غيرها مع حرمانه منها وهو ما أكدته النصوص والآثار.
فعن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلق أم عاصم، ثم أتاها عليها وفي حجرها عاصم، فأراد أن يأخذه منها، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام، فانطلقا إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: «يا عمر، مسحها، وحجرها، وريحها خير له منك حتى يشب الصبي، فيختار» أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف".