عندما بدأت إسرائيل عدوانها الغاشم على قطاع غزة، اعتمدت بصورة كبيرة على الدعم الكبير المقدم لها من قبل حلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ودول المعسكر الغربي، والتي تبنت في اللحظة الأولى موقفا مؤيدا للاحتلال تحت ذريعة الدفاع عن النفس، وهو ما شهد تغييرا كبيرا في مراحل لاحقة ترجع في جزء كبير منها إلى الانتهاكات الكبيرة التي ارتكبتها الدولة العبرية بحق المدنيين في غزة، مع تعمدها توسيع دائرة الصراع، لتتجاوز القطاع إلى مناطق أخرى في منطقة الشرق الأوسط، على غرار لبنان وسوريا والعراق وحتى إيران، وهو ما ينذر بحرب إقليمية شاملة قد تأمل الاخضر واليابس حال عدم القدرة على احتوائها.
ولعل الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل سواء في غزة أو غيرها من دول المنطقة، كانت عوامل مهمة نجحت القوى الاقليمية المؤثرة وعلى رأسها مصر في استثمارها في إطار تجريد الدولة العبرية، من حالة الدعم الدولي المطلق وغير المشروط، وهو ما ما بدا في العديد من المشاهد، أبرزها الإدانات المتواترة من قبل زعماء وقادة العالم ليس فقط للعدوان وإنما أيضا لاستمرار الاحتلال والذي يبقى السبب الرئيسي لحالة عدم الاستقرار، ناهيك عن اتخاذ بعض الدول خطوات عملية على غرار الاعتراف بدولة فلسطين، أو الاتجاه نحو رفع دعوى قضائية ضد الدولة العبرية، للتأكيد على عدم شرعية الاحتلال.
والحديث عن دور مصر في تجريد إسرائيل مما تحظى به من دعم مطلق، خاصة من قبل دول المعسكر الغربي، وفي القلب منه الولايات المتحدة، ليس بالأمر الجديد تماما، فقد سبق للدولة المصرية إلحاق هزائم دبلوماسية متواترة بالاحتلال، خاصة في أعقاب هزيمتها عسكريا في أكتوبر 1973، والتي تعد نقطة تحول مهمة، ليس فقط فيما يتعلق بكسر العديد من التابوهات حول إمكانات الاحتلال وقدراته العسكرية التي نسجوا حوّلها العديد من الأساطير، وإنما أيضا في إرساء العديد من المبادئ ربما أبرزها أن السلام لا يمكن أن يتحقق دون عدالة، قائمة على الشرعية التي يرتضيها المجتمع الدولي، وهو ما بدا في المراحل اللاحقة للحرب خلال العملية التفاوضية في كامب ديفيد وما أعقبها من استرداد للأراضي المصرية في سيناء ثم طابا عبر التحكيم الدولي
فلو نظرنا إلى التحالف الأمريكي الإسرائيلي، كنموذج مهم لحالة التراجع النسبي على المستوى الدولي، والتي تشهدها الدولة العبرية، في اللحظة الراهنة، في ضوء التوتر الملحوظ جراء تعنت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، نجد أن ثمة تقارب كبير مع المشهد في السبعينات من القرن الماضي، عندما نجحت مصر في مفاوضات كامب ديفيد من استعادة أراضيها على مرأى ومسمع واشنطن، في ضوء نجاعة الدبلوماسية المصرية التي وضعت الإدارة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل فيما يمكننا تسميته "مأزق" السلام، والذي لم يكن يوما ما خيارا إسرائيليا، وهو ما يمكن أن يقدم تفسيرا في جزء منه لفشل كارتر في الحصول على ولاية ثانية، بعدما انتصر عليه غريمه رونالد ريجان.
والمفارقة المثيرة للانتباه تتجلى في التقارب الكبير بين الظروف المحيطة بالداخل الأمريكي، خلال حقبة السبعينات، من القرن الماضي، والذي لم تكن فيه واشنطن حسمت المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، بينما كان الداخل يعاني ارتباكا على خلفية فضيحة "ووترجيت"، والتي استقال بعدها الرئيس الأسبق نيكسون، والتي لم تكن أمريكا تعافت منها بعد، من جانب، والمشهد الحالي والذي تبدو فيه قوى أخرى مؤهلة للمشاركة في صناعة القرار الدولي، بينما يعاني الداخل من انقسام كبير قبل انتخابات الرئاسة المقبلة من جانب آخر.
تلك الحالة التي خلقت من رحم انتصار أكتوبر تفسر بجلاء حالة الارتباك التي تعاني منها حكومة نتنياهو ومحاولاتها المتواترة للزج باسم مصر، تزامنا مع عجزه الكامل في تحقيق الاهداف التي اعلن عنها في بداية العدوان.
ويعد الموقف الأمريكي، الداعم بقوة للتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بمثابة نجاحاً تاريخياً للدبلوماسية المصرية في استمالة الإدارة الأمريكية، بعد ما يقرب من عام من الحرب والدمار، نحو خيار الاستقرار، على حساب الحليف الاستراتيجي، وهو ما يمكن رصده في حجم التغيير في الموقف الأمريكي، الذي بدا رافضا لكل ما من شأنه إنهاء العدوان في البداية، عبر الفيتو تارة، والدعم العسكري والمادي لتل أبيب تارة أخرى، وهو الأمر الذي أثار هلعا لدى الحكومة اليمينية المتطرفة جراء تكرار المشهد الذي سبق للدولة المصرية صياغته قبل خمسة عقود عسكريا ثم دبلوماسيا ودبلوماسيا ثم قضائيا وهي نفس المراحل التي تشهدها فلسطين في اللحظة الراهنة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة