عندما بلغ الطفل بليغ حمدي السادسة من عمره، كان يجيب علي من يسأله: "عاوز لما تكبر تطلع إيه يا بليغ؟"، فيرد "عاوز أبقي مزيكاتي"، وكان في لسانه لدغة محببة وينطق كلمة "مزيكاتي" بطريقة جميلة تبعث علي الابتسام"، وفقا لشقيقه الدكتور مرسي سعد الدين، في شهادته للكاتب الصحفي أيمن الحكيم في كتابه "موال الشجن، سيرة وأوراق وألحان بليغ حمدي".
كان مناخ البيت الذي شهد مولد بليغ في7 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1932 بشارع التوفيقية في "روض الفرج"، يدفعه لاختيار "المزيكاتي" كمهنة، وينبئ بأن الموسيقي والإبداع سيكونان مع "فنان ذو رؤية خاصة، وينفرد بين ملحني عصره باعتزازه بهذه الرؤية وتمسكه بها، وتستند هذه الرؤية إلي الإيمان بالعبقرية الكامنة في كل مصري، وكان بليغ يعتقد أنها لا تحتاج إلا إلي موقظ يدركها أولا وينشدها ثانيا، ثم يقدم زنادها ليملأ الدنيا نارا ونورا"، حسبما يذكر الناقد والمترجم والأديب الدكتور محمد عناني في مقاله "بليغ حمدي الرؤية والامتداد الأصيل" بمجلة "الشموع، رقم 35، يناير 1995، الخاص عن "بليغ حمدي".
يلقي "سعد الدين" الضوء علي البيئة التي تربي فيه مع شقيقه بليغ، قائلا: "والدنا عبدالحميد حمدي، كان أستاذا طبيعة تخرج من كلية المعلمين العليا، وسافر لندن للدراسة، كان مهتما بالعلوم الإسلامية، وألف كتابا مشتركا مع العالم الكبير الدكتور علي مصطفي مشرفة عن العالم العربي الشهير "الحسن بن الهيثم"، وحصلا بسببه علي جائزة الدولة، ثم ألف والدي كتابا بمفرده عن "ابن الهيثم"، وشرح فيه بالتفصيل تجاربه علي الضوء والمعدات التي استخدمها، والكتاب موجود نسخة منه في متحف التعليم، أما والدتي – ماما عائشة – فكانت سيدة متعلمة، ولها تجارب في كتابة الشعر، وكانت عضوة في لجنة سيدات الوفد".
يضيف "سعد الدين": "أنجب والدي خمسة أطفال، ثلاثة ذكور وبنتين، أنا وبليغ وحسام وشقيقتان هما صفية وأسماء، ونشأنا في بيت يحب المزيكا، فوالدي كان "غاوي موسيقي"، وكان له أصدقاء من الموسيقيين المعروفين في عصره، كانوا كثيرا ما يزورننا ويعقدون سهراتهم الموسيقية في بيتنا، وأذكر أن من أهم أثاث البيت "فونغراف" ذا بوق كبير، واسطوانات لأغلب الأغاني المعروفة في ذلك الوقت، كان كل أفراد الموسيقي بلا مبالغة عندهم تذوق للموسيقي، وفي المرحلة الابتدائية بدأت في تعلم العزف علي الكمنجة ثم تركتها، أما بليغ فكان غاوي مزيكا من صغره، وعندما بلغ ست سنوات كنا نسأله: عاوز لما تكبر تطلع إيه يا بليغ؟ ، فيرد بدون تفكير: عاوز أبقي مزيكاتي".
يذكر أيمن الحكيم، أن بليغ حصل علي الشهادة الابتدائية من مدرسة "هدي شعراوي الأولية" بشبرا، وتخرج عام 1946 وهو نفس العام الذي توفي فيه والده، وفي الدراسة الثانوية تنقل بين ثلاث مدارس، النيل، الأمير فاروق، التوفيقية، وبعد حصوله علي التوجيهية أراد أن يلتحق بمعهد الموسيقي، لكن والدته رفضت، وأصرت علي التحاقه بكلية الحقوق، فالتحق بها بالفعل حتي لا يغضبها، وفي الوقت نفسه التحق بالمعهد العالي للموسيقي المسرحية.
بقي بليغ طالبا بكلية الحقوق سنوات طويلة، ولم يحصل علي الليسانس لانشغاله بالفن، وكان يؤجل الامتحانات كل عام، ومن خلال المعهد العالي للموسيقي درس "الصولفيج" مع مدرسة البيانو "جوليو"، وبات يقرأ ويكتب النوتة الموسيقية، ثم درس علم الأصوات مع أستاذ آخر، ودرس الهارموني المصري المعروف، ووصل إلي مرحلة "الكونتر بونيت" أي "اللحن العكسي للحن الأساسي"، وهي مرحلة متقدمة في علم "الهارموني"، كما درس الموشحات الأندلسية وحفظ الكثير من الأدوار وبعض ألحان الفولكلور.
يكشف محمد العناني أنه كان يدرس العزف علي آلة العود بمعهد الموسيقي الشرقية الذي أصبح "معهد الموسيقي العربية"، وتعرف وقتئذ علي بليغ وكان يدندن في المعهد بأنغام حرة، وصار صديقين، ويذكر العناني، أنه بدأ يدرك أن ذلك الشاب الموهوب سيكون له شأن كبير، وكانت آراؤه الموسيقية في تلك الآونة تتلخص في ثلاثة أشياء هي:
"أن الأنغام الشعبية التي أتي بها سيد درويش كانت في الواقع أنغاما من صنع الشعب وأن سر نجاحها يكمن في أنها كانت تضم خيوط الألحان التي يعزفها المصريون في الحقول وعزفها أجدادهم علي امتداد قرون طويلة، وأن تجديدات عبدالوهاب محتومة لأنها التطور الطبيعي للآلات المصرية القديمة، وإن كان الاتجاه نحو "التطعيم" بالموسيقي الغربية سيظل تطعيما محدودا لأنه مرتبط بصوت عبدالوهاب، وقد لا يصيب نفس المقدار من النجاح إذا انتقل إلي أصوات أقل قدرة علي المزج بين الشرقي والغربي، وإن الخط الذي آن لنا أن نسير فيه هو تنويع الايقاعات المصرية استنادا إلي الإيقاعات القديمة الموروثة من الفراعنة، والتي يمكن أن نسمعها بوضوح في الريف المصري بالتحديد في الأحياء الشعبية في المدن والتي لم يفطن إليها سيد درويش وتجاهلها".