ربما كانت الخطوة التى أقدمت عليها جنوب إفريقيا، برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، ضد الانتهاكات الإسرائيلية فى قطاع غزة، والتى انضمت إليها عدة دول أخرى، وعلى رأسها مصر، بمثابة خطوة تاريخية، ليس فقط فيما يتعلق بالعدوان الغاشم، وإنما أيضا فى مسار القضية الفلسطينية بأسرها، فى ضوء العديد من المعطيات، ربما أبرزها عجز مجلس الأمن الدولى عن استصدار قرار بوقف إطلاق النار، بسبب الفيتو الأمريكى، وحالة الانحياز التى تتبناها الولايات المتحدة لصالح الاحتلال، رغم سقوط آلاف المدنيين وأغلبهم من النساء والأطفال، ناهيك عن الاستهداف الصريح للمنشآت المدنية، بعيدا عن الأهداف المعلنة التى تبنتها الدولة العبرية منذ بداية المعركة منذ عام مضى بالتمام والكمال.
ولعل الأهمية الكبيرة للدعوى القضائية التى رفعتها جنوب إفريقيا، لا تقتصر فى جوهرها على ما آلت إليه من أحكام، وعلى رأسها الوقف الفورى للعدوان، وضرورة إنهاء الاحتلال، وإنما فى المأزق الكبير الذى خلقته لإسرائيل على العديد من المسارات، ربما أبرزها إظهار حالة من التعاطف الدولى مع القضية الفلسطينية، تجاوزت الدائرة الإقليمية، سواء فى صورتها العربية أو الإسلامية، نحو مناطق أخرى من العالم، على رأسها إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى مناطق أخرى فى العالم، وهو ما أضفى قدرا كبيرا من الشرعية الدولية، على الحق الفلسطينى، وهو ما بدا فى العديد من المشاهد، أبرزها الأغلبية الكبيرة التى حصلت عليها فلسطين، بالجمعية العامة للأمم المتحدة، حول الحصول على العضوية الكاملة، بالإضافة إلى حملة الإدانات واسعة النطاق للعدوان، وما ارتكبه الاحتلال من انتهاكات كبيرة.
بينما ارتبط المسار الآخر، بحالة الحرج الشديد التى أصابت حلفاء الدولة العبرية، فى إطار انحيازهم الصارخ لها، فى بداية العدوان، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، حيث تبقى الدعوى القضائية، سواء فى طبيعة الدول التى قامت برفعها، من جانب، أو ما آلت إليه من أحكام، سببا رئيسيا فى تغيير نسبى بدا واضحا فى مواقف المعسكر الموالى للاحتلال، وهو ما يبدو بوضوح فى مشهد اعتراف عدة دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، على أساس أن استمرار الاحتلال سوف يؤدى لا محالة إلى مزيد من عدم الاستقرار فى المنطقة والعالم، بينما يمثل التوتر الملموس فى العلاقة بين إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بعدا مهما فيما يتعلق بالمواقف الدولية المتغيرة، خاصة وأن واشنطن تمثل خط الدفاع الأول عن تل أبيب، وهو ما يعنى تجريدا نسبيا للاحتلال من حلفائه.
فى حين يبقى المسار الثالث مرتبطا باعتماد العدالة الدولية كـ"ظهير" داعم للشرعية، خاصة وأن الاعتماد على الشرعية وحدها، لم يفلح فى تحقيق أى خطوة ملموسة فيما يتعلق بتطبيق أهم عناصرها، وهو حل الدولتين، وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وبالتالى تبقى الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية، رغم عدم إلزاميتها، بمثابة صفعة مهمة للاحتلال، فى ظل ما أسفرت عنه من تعزيز لمبادئ الشرعية الدولية، والتى طالما تجاهلتها إسرائيل وحلفائها لعقود طويلة من الزمن.
والحديث عن "العدالة" الدولية، يمثل أهمية كبيرة فى اللحظة الراهنة، باعتباره مفهوما بات مكملا لـ"الشرعية"، والتى تبقى أسيرة فى قبضة القوى الدولية الحاكمة، باعتبارها مازالت مهيمنة على العالم، خاصة وأنها تملك حق "الفيتو" والذى يمثل حائط صد أمام تنفيذ الإرادة التى توافق عليها العالم، فى العديد من القضايا الدولية، فى ضوء تضارب المصالح، ومعطيات المنافسة، فى ظل صعود العديد من القوى التى يمكنها المشاركة فى صناعة القرار العالمى، وهو ما يبدو فى التحديات التى واجهت العالم، لتحقيق "حل الدولتين"، منذ عقود، بينما تجلت مؤخرا، فى الوصول إلى قرار أممى حول وقف إطلاق النار، رغم توافق الأغلبية الكاسحة من الدول حول ضرورة التوصل إلى صياغة فى هذا الإطار حقنا للدماء.