محللون سياسيون: الرؤية الإسرائيلية خالفت استراتيجية أمريكا فكان الخطاب الأخير
"ما دامت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة، فستظل تدافع عن إسرائيل" بتلك العبارة الصادمة لم يجد وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن حرجًا فى إظهار مدى الدعم الذي توجهه بلاده لتل أبيب، معتبرا أن "إسرائيل ليس لها الحق فحسب في الدفاع عن نفسها بل وملتزمة بذلك".
كانت رسالة بلينكن صريحة، وأشعلت شرارة الحرب فى غزة، بعد أن أعطى تل أبيب الضوء الأخضر لارتكاب ما تريده من مجازر بحق الفلسطينيين فى الحرب الدائرة بالقطاع المحاصر منذ السابع من أكتوبر الماضى وتسبب فى إبادة للأطفال وموجة تهجير واسعة للفلسطينيين.
عبر تحليل بيانات بلينكن الرسمية بداية من السابع من أكتوبر، رصد "اليوم السابع" كيف أن أمريكا دفعت إسرائيل ودعمتها في مخالفة القانون الإنساني والدولي، ليس فقط بالدعم العسكرى، ولكن بمؤازرتها علانية، ودعم حقها فى حمل السلاح وقتل كل حياة بغزة، فهو من صاح علانية: "تهمة الإبادة الجماعية لإسرائيل لا أساس لها من الصحة، وإسرائيل كان لابد لها أن تغزو غزة، وندافع عن حقها حتى لا يتكرر لها ما حدث في السابع من أكتوبر".
وفى كل بياناته، حرص أنطونى بلينكن على إظهار صلة الرحم الدينية والسياسية التى تربطه بإسرائيل، والتي أعلنها صراحة في اجتماعات وبيانات رسمية وخطابات صحفية وتلفزيونية، وخلال زيارته لنحو 13 دولة عربية وأجنبية لمناقشة الأزمة الفلسطينية.
وفى هذا التحقيق المدعوم بالبيانات نرصد كيف أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال 70 بيانًا صحفيًا أطلقهم وزير خارجيتها أنطوني بلينكن، بدءًا من السابع من أكتوبر2023، وحتى الجولة العاشرة بمنطقة الشرق الأوسط، أن ليس لإسرائيل صديق وحليف أفضل من الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، وأعطتها الضوء الأخضر لبدء الحرب على غزة.
فبعد يوم واحد من عملية طوفان الأقصى، هرع بلينكن لنجدة إسرائيل، وذهب إلى منزلهم، وقال متضامنًا: "أنا يهودى"، ليفتح الباب بهذه الجملة أمام الرأي العام العالمي لوضعه في خانة "الأب الروحى" لإسرائيل، فلا رواية تناقش إلا الرواية الإسرائيلية، ولا صورًا تصدق غير "فبركات" أفيخاى أدرعي، ولا شعار يعلو فوق شعاره الملتزم به في خطاباته الصحفية، والذى يقول فيه: "إسرائيل ليس لها الحق فحسب في الدفاع عن نفسها، بل عليها الالتزام بذلك"، لتتحول بعدها إسرائيل إلى ثور هائج ينتقم بلا منطق أو إنسانية، وهو يدرك جيدًا أن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية.
رسم بيانى يشرح اتجاه الخطاب الأمريكى نحو إسرائيل
وأكدت البيانات رفقة جولاته، عدم تنازل أمريكا، عن حق "ولاد العم" مستميتًا في الدفاع عن حق إسرائيل عن نفسها، بل وعلى العكس ملتزمًا معها بهذا الحق، متجاهلًا معاناة الملايين من الشعب المحتل في البداية، ففى الجولة الأولى أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لبدء الحرب دون تهاون معلنًا دعمًا عسكريًا غير مسبوق، بل والحديث مع الكونجرس لزيادة هذا الدعم وتلبية كل احتياجات نتنياهو ، بعد تشكيل حكومة الحرب..
70 بيانًا صحفيًا، بينهم 27 أصدروا من تل أبيب، و22 أصدرهم من مكتبه بواشنطن، لتتفرق الخطابات الـ21 المتبقية على منصات دبلوماسية في القاهرة والأردن والسعودية والإمارات وقطر، وعلى هامش بعض المحافل الدولية التي خصصت في أجندتها الوضع المأساوى في غزة، خوفًا من أن يطولها الصراع .
وتشير البيانات أن جولته الثالثة، كانت بالتزامن مع التوحش الإسرائيلي البرى في قطاع غزة، إلا أن بلينكن في مؤتمر صحفى، تجاهل تمامًا هدم المستشفيات وقصف المنازل، وقتل الأطفال، ودعم حق إسرائيل مرة أخرى في الدفاع عن نفسها.
وحين وصل الغضب العالمى إلى ساحة محكمة العدل الدولية، توجه بلينكن في جولته الرابعة إلى تركيا والأردن وقطر والإمارات والسعودية، وبالتأكيد تل أبيب، وتحدث نيابة عن حكومة الاحتلال، وبرر لنتنياهو ما ارتكبه من مجازر، وحشد الجهود الدبلوماسية والدولية لتخفيف انتقام اغتيال أحد قادة حماس وحزب الله.
وفى فبراير، كان الحديث منحصرًا فقط على المحتجزين في غزة دون اكتراث بمقتل الآلاف من الشهداء الفلسطينيين معظمهم من الأطفال، ليبدأ جولة سادسة من القاهرة في مارس 2024، متحدثأ هذه المرة عن المساعدات الإنسانية التي لا يكفى ما يدخل منها ملئ فم العشرات من الملايين المحاصرين، دون أن يطالب إسرائيل بوقف هذه الإبادة الجماعية الموضوعة على رأس الأجندة الإسرائيلية.
وعلى مضض ألقى بلينكن بعضًا من نصائح "الأخ الأكبر"، في تل أبيب بجولته السابعة، والتي بدأت من الأردن والسعودية، بسبل محاربة حماس دون مساس بالمدنين مع التنبيه بخطر الاجتياح البرى لمدينة رفح الفلسطينية، وأعلن معارضة الولايات المتحدة الامريكية للهجوم الذى لم يلبث أسابيع قليلة، واجتاحت الدبابات الإسرائيلية معظم مساحات رفح من الجانب الفلسطيني، وقتلت الآلاف وهدمت المنازل والمستشفيات.
ومرة ثامنة بدأت الجولة من مدينة القاهرة، في العاشر من يونيو، قبل أن ينتقل إلى قطر والأردن، وكالعادة تل أبيب، ولكن هذه المرة لدعوة الحكومات للضغط على حماس، رغم الهجوم المتواصل على غزة ومقتل المئات في مخيم النصيرات، وألقى بالكرة في ملعب حماس، "إذا كانت حقًا تعمل من أجل الشعب الفلسطيني" ـ علي حد قوله ـ ولا تلقى به كدروع بشرية في وجه الدبابات.
وأخيرًا جاء ما سمى الخطاب الأخير في زيارته التاسعة إلى منطقة الشرق الأوسط فى التاسع عشر من أغسطس، بعد أن أنهكت الحرب تل أبيب واستنزفت واشنطن ، للدفع قدمًا نحو إبرام صفقة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد أن وصل شهداء وجرحى الاحتلال نحو 140 ألفاً، وبعد أن طال الدمار معظم بيوت ومساكن غزة.
ورغم التغيير في لغة الخطاب عن اليوم الأول لعدة عوامل، جاء خطاب الفرصة الأخيرة، محبطًا ومخيبًا لآمال الكثير، فبديلًا عن الضغط على نتنياهو لقبول مقترح جو بايدن، ألقى بلينكن الاتهام على حماس، بل وإذا كانت حقًا تكترث لحياة الفلسطينيين بالقطاع المحاصر فعليها الرضوخ والاستجابة.
وحذر بلينكن من ضياع الفرصة لأخيرة ما لم يتم التوصل لاتفاق تهدئة وهدنة بين الطرفين، ومع ذلك فإن بلينكن لا يخفي أنه بالفعل أحد الطرفين، باعتبار انحيازه المستمر لإسرائيل التي يبرر أفعالها دائمًا.
وأخيرًا وفى لحظة فارقة بالعالم، حضر وزير خارجية أمريكا، أنطونى بلينكن، للمرة العاشرة إلى منطقة الشرق الأوسط، لكن هذه المرة اكتفى بالقاهرة، وتجاهل الاقتراب من تل أبيب، وإن لم يتجاهل الدفاع عنها في بيانه بالمؤتمر الصحفى، والذى شاركت فيه، وكان البيان بالتزامن مع الهجوم السيبرانى على لبنان، لكنه وبنبرة حادة رفض توجيه الاتهام إلى إسرائيل ، مطالبًا كمثل الكثير من المرات، بالتأنى لحين الانتهاء من التحقيقات ومعرفة حقيقة ما حدث، منكرًا أيضًا تورط الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الهجوم.
وكان واضحًا في كل إجابات بلينكن على أسئلة الصحفيين، تعلقه بضرورة منع توسع الصراع، والذى يبدو وكأن خيوطه فلتت من بين يديه، مؤكدًا أن ذلك قد يؤدى إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق.
وأعلن بلينكن في خطابه الأخير، عدم قدرة الولايات المتحدة، على الوصول إلى حل في مفاوضات لوقف إطلاق النار، بسبب انعدام الإرادة السياسية لدى جميع الأطراف، لكنه في نفس الوقت، أشار إلى سلامة نية المحتل والذى أعلن تفكيك قواته في رفح الفلسطينية، بعد أن ثبت أن حماس ليست في وضع يسمح لها بتكرار هجمات 7 أكتوبر.
تحليل خطابات بلينكن يكشف طريقه حديثه عن حماس
وفى تحليل لكلمات ال70 بيانًا، حذر بلينكن إسرائيل من انتهاك القانون الإنساني الدولي 21 مرة فقط، كان هذا حين ارتفعت وتيرة الصراع الإقليمى، وأعلنت الحكومات الأوروبية والغربية ضرورة التصدي لجرائم نتنياهو.
46 بيانًا يتهم فيهم بلينكن حماس بالإرهابية
بيانات بلينكن كانت محور حديث مع الأستاذ حسن المومنى الدكتور في العلاقات الدولية ورفض النزاعات بالجامعة الأردنية، الذي تطرق إلى تعامل وزير الخارجية الأمريكي منذ اللحظة الأولى وفقًا لخلفيته الشخصية والسياسية، فهو يمثل جزءًا من مؤسسة ملتزمة بتوجهات إدارة ومراكز القوى في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان رد فعله في خطاباته الأولى أشبه ما يكون برد فعل أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، واكتفاء بالتلويح بالرواية الإسرائيلية مؤكدا بذلك على قرار الإدارة الأمريكية بتصنيف حماس جماعة إرهابية، وهو ما ذكره في 46 بيانًا له.
تحليل خطابات بلينكن يكشف طريقة حديث بلينكن عن إسرائيل
نحن ندعمهم اليوم وغدًا وكل يوم..جملة تكررت في 16 خطاب لبلينكن
ووفقًا للبيانات فقد دعم وزير خارجية أمريكا هجوم إسرائيل على غزة بحجة حقها في الدفاع عن نفسها، بل وبدا أن حماية المدنيين بالقطاع المحاصر، من خسائر الحرب التي لابد منها معللًا ذلك بقوله :"حماية المدنيين في غزة تعنى السماح لحماس بالانتصار"، وقال أيضًا :إذا أوقفت إسرائيل إطلاق النار الآن، فستعطى الفرصة لحماس من أجل إعادة لملمة نفسها وبدء هجوم جديد على إسرائيل، وفى 16 خطاب كرر جملته الداعمة للاحتلال : نحن ندعمهم اليوم، وسندعمهم غدًا، وسندعمهم كل يوم.
خبير بالعلاقات الدولية: لم يحسب بلينكن توسع الصراع وخاف التهميش الدولى
وأضاف المومنى: لكن بلينكن وإدارة جو بايدن، لم يحسبوا الاضطرابات والخسائر التى تنتج عن انتشار الصراع، خاصة مع الضربات الانتقامية لمقتل قادة حماس وحزب الله، وهجمات الحوثيين على سفن البحر الأحمر، واتخاذ الدول العربية وبعض الدول الأوروبية مواقف تخشى أمريكا فيها أن يسحب بساط القوى من تحت أقدامها، بعد أن ظهرت علانية وهى تتورط فى قتل الأبرياء فى غزة، فقررت لعب دور الوساطة، ومارست بعض الضغوط من أجل إحداث تأثير يهدئ من بشاعة الوضع المأساوى في غزة وتدهور الأزمة الإنسانية .
وتدريجيًا ومع شراسة الجانب الإسرائيلي والاشتباك الإقليمي العربى مع الإدارة الأمريكية، ومع الخوف من احتمالات عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الواجهة بعد الانتخابات المرتقبة في نوفمبر، بات التحول في الخطاب واضحًا، وإن كان باطنه يخالف ظاهره، وصار من مصلحة الإدارة الأمريكية إنهاء الحرب، وبدا بلينكن متعطشا لإنهاء الاتفاق.
قصف مستشفى المعمداني
رغم مواقف عديدة مرت بها القضية الفلسطينية، سواء قصف مستشفى المعمدانى أو تفجير مخيم النصيرات واغتيال إسماعيل هنية، لم يخرج بلينكن ببيان صحفى، واكتفى في بعض الأوقات بالتغريد على تويتر، وهنا قال الدكتور حسن المومنى: إن الأمر متعلق فقط بلعبة توزيع الأدوار.
زيارات مستمرة لتل أبيب
كما لم تمنع أمريكا نفسها علانية من دعم إسرائيل، وقت رفض العالم جميعًا لموقفها وإحالته إلى محكمة العدل الدولية، وخرج بلينكن ببيان صحفى وقالها علانية: تهمة الإبادة الجماعية لإسرائيل لا أساس لها من الصحة، وإسرائيل كان لابد لها أن تغزو غزة، ودافعت عن حقها حتى لا يتكرر لها ما حدث في السابع من أكتوبر، كما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها وسيطًا أن تطمئن إسرائيل إنها بأمان طالما مازالت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة على حد تعبير بلينكن .
وأشار الدكتور المومني إن الخطاب الأمريكي تجاه إسرائيل قد تغير إلى حد ما، وإن كان الأمر يشبه في حد ذاته عتاب الأب لابنه، بعدما ظهر للعالم كله أن أمريكا أصبحت جزء من المشكلة لا الحل، بعد تصريحاتها المستمرة والتأكيد على أن إسرائيل لها حق الدفاع عن نفسها، وأنها تتلقى المساعدة العسكرية وكل ما تحتاجه منها، وبعد ردة الفعل الإسرائيلية الغير مناسبة، والثمن الإنساني، الذى أحرج أمريكا أمام العالم. وظهر ذلك فى 21 بيانًا من أصل السبعين بيانًا صحفيًا على لسان بلينكن.
تدهور الأوضاع فى غزة
من جانبه قال أكرم عطا الله المحلل السياسى الفلسطيني المقيم بلندن، إن وزير الخارجية أنطونى بلينكن شارك في تصعيد الحرب في غزة، من اليوم الأول لوصوله تل أبيب معلنًا تلبية كل احتياجات إسرائيل العسكرية، وكذلك توجيهها إلى الدفاع عن حقها، بالإضافة إلى الدعم المعنوي لها، الأمر الذى بعده ارتكبت إسرائيل أبشع المجازر، بالمخالفة للقانون الإنسانى الدولى، وبحماية أمريكية .
وأشار عطا الله إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد تقارير منتقدة لسياستها الدولية ، والإشارة إليها بأصابع الاتهام بالتورط في الحرب، وحتى لا تتضرر الصورة الخارجية للدولة العظمى، وبعد تحرك الجاليات العرب في دول العالم، نصبت نفسها بدور الوسيط، وسحبت البساط من تحت أقدام الأوروبيين، واستعانت بدول عربية لها دور مؤثر في المنطقة.
الأوضاع فى غزة
وأكد عطا الله أن الولايات المتحدة الأمريكية في البداية كانت تعتبر أن رؤيتها تتوافق مع الرؤية الإسرائيلية وهو ما أثبت نتنياهو عكسه مع مرور الأحداث، ولكن بعد فوات الأوان حيث توغل بلينكن في تحقيق خطوات مشروعه السياسيى بمعزل عن الولايات المتحدة.
وأنهى عطا الله حديثه قائلًا : لا أحد في فلسطين يثق في وساطة أمريكا، لا السلطة الفلسطينية، ولا المواطن ولا حركة حماس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة