فى المقال السابق بدأنا معا تحليل حالات التطرف المؤدى للقتل، التى استعرضناها فى بداية تلك السلسلة من المقالات.. وفى هذا المقال نستكمل حديثنا.. فأرجو منكم مراجعة الحلقات الثلاث الماضية من هذا الموضوع.
«5»
كان الڤايكنجز أو «رجال الشمال» هم أصحاب السمعة الأسوأ فى أوروبا العصور الوسطى.. كفار، همج، دمويون، حيوانات، حتى إن بعض رجال الدين الكاثوليك قد قالوا إن الڤايكينجز هم شعب «جوج وماجوج/ يأجوج ومأجوج» المدمر المذكور فى سفر رؤيا يوحنا اللاهوتى.
وحتى مع تعميد بعضهم لاحقا كمسيحيين، غالبا فى سياق اتفاقيات تسمح باستقرارهم فى مناطق مثل إنجلترا وفرنسا، أو دخولهم فى خدمة ملوكها، كانت توجد نظرة ازدراء لهم لأنهم من أصول همجية بربرية.
كانت تلك هى عقدة الملك أولاف تريجڤاسون، فأراد أن يعالجها بأن يثبت أنه ليس أقل حماسا للدين ممن اعتنقه على أيديهم، وأنه يستحق مكانة مساوية لملوك أوروبا المسيحية الذين اشتهروا بمحاربة الكفر والهرطقة، فعززوا مكاناتهم واستحقاق كل منهم العرش فى بلاده، لكنه تمادى حتى صار كما يقال «ملكيا أكثر من الملك»، فارتكب فى مملكته نفس ما كان سببا لوصم الڤايكينجز بالهمجية والدموية، لكنه هذه المرة كان يرتكبه تحت راية «الإيمان» معتقدا أن مشكلة تقبل أوروبا للڤايكينجز كانت دينبة فقط!
«6»
كان فكر القرامطة بمثابة «طفرة» فى التطرف، فالخوارج كفروا من خالفوهم، واستباحوا دماءهم وأموالهم، لكنهم لم يحرفوا ثوابت الدين من عبادات وشعائر، وإن كانوا قد تجرأوا على حرمة المدينة إلا أن أعتاهم شطحا لم يفكر فى المساس بالكعبة.
تتفق الحركتان - الخوارج والقرامطة - فى المنطلق، فكلاهما خرجت من عباءة الحقد القبلى/العشائرى/العرقى/الطبقى، فمؤسسو وقادة القرامطة كانوا من الفرس المستعربين، الذين استهدفوا بالتجنيد فئات سكانية مشابهة عرقيا أو فئات الفلاحين الفقراء والأعراب المهمشين فى وقت كانت الخلافة فيه فى أيدى العرب العباسيين والحكم الفعلى فى أيدى القادة من العرق التركى بعد أن كان ذوو الأصول الفارسية لفترة طويلة هم المشاركون فى صناعة القرار وإدارة البلاد، فكانت حركة القرامطة إذن تعبيرا عن الحقد العرقى الفارسى من ناحية، وغضب سكان الأطراف من استحواذ سكان «المركز» على المزايا المعيشية الأفضل من ناحية أخرى، كان من الطبيعى إذن أن تتطرف حركة القرامطة فى معتقداتها فلا تدعى كغيرها من الحركات المتطرفة أنها تريد «إصلاح المجتمع» بل أن تكون صريحة فى أنها تريد هدمه وبناءه من جديد وفق رؤيتها، فلم تكن فكرة مهاجمة الكعبة - قدس أقداس المسلمين - وانتزاع الحجر الأسود إلا تعبيرا عن توجههم لهدم مركزية كل من الدولة والدين وإقامة دولة ودين القرامطة هم مركزهما الجديد.
«7»
عندما وقف البابا الكاثوليكى أوربان الثانى فى مجمع كليرمونت سنة 1095م لينادى بالحشد للحرب المقدسة و«تحرير قبر المسيح» من أيدى الوثنيين السراسنة «السراسنة وصف عنصرى قديم للعرب»، كان ينتظر أن يلبى ملوك أوروپا وقادتها نداءه، لكنه فوجئ بأن من لبوا النداء كانوا صغار الأمراء ومفلسى طبقة الفرسان ومعهم حشود الفقراء والفلاحون.
كان عليه أن يتوقع ذلك، فملوك أوروپا فهموا أنه يريد أن يفرغ القارة منهم بإرسالهم لحرب فى بلاد بعيدة ليستحوذ على السطوة الفعلية، بينما رأى صغار الأمراء أن تلك الحملة هى فرصة مزدوجة، فمن ناحية كانت قوانين الوراثة آنذاك تعطى كل شىء للابن الأكبر وتحرم الأصغر من تركة أبيه، وكان جل هؤلاء ممن ظلمهم هذا القانون، فأرادوا تحقيق أحلام الثراء فى الشرق الغنى الذى تصفه الروايات الحالمة بأنه يفيض لبنا وعسلا وذهبا، ومن ناحية أخرى كانوا يطمحون لاكتساب الاحترام العام كحملة لراية الصليب و«فاتحون» للأرض المقدسة بدلا من تلك النظرة السلبية لهم باعتبارهم حفنة من المشاغبين الذين يعكرون سلام الرب بصراعاتهم ومعاركهم.
كان من الطبيعى إذن أن ينفذ هؤلاء تلك المذبحة المروعة فى بيت المقدس بحق أى مخالف لكنيستهم الكاثوليكية، لإظهار غيرتهم على الدين بواقعة صادمة تذكر من تبلغه أخبارها فى أوروپا بالعقاب الإلهى، الذى كان يرسله الرب على المدن الظالمة، لتتغير تلك الصورة الذهنية السلبية عنهم إلى أخرى أكثر إيجابية!
«8»
مخطئ من يعتقد أن المجتمع الإسرائيلى متناسق أو حتى متجانس.. بالعكس، هو مجتمع ممزق من مختلف المستويات الدينية والعرقية والسياسية، فالمهاجرون القدامى يعتبرون أنهم الرواد لأرض إسرائيل/ خالوتسيم ها آرتس يسرائيل، والصابرا يرون أن القدامى متحجرون يمثلون فكرا منقرضا، والأشكيناز «اليهود الغربيون» يصطدمون بالسفرديم «اليهود الغربيون» لأنهم - الأشكيناز - يرون فى إسرائيل «دولة بيضاء أوروبية الطابع فى الشرق المتخلف» ويحتثرون الجذور الحضارية الشرقية لليهود الشرقيين، والمتدينون يصارعون العلمانيين.. كل هذا فى دولة - صدق أو لا تصدق - ليس لها دستور!
وسط هذا الصراع عاش باروخ جولدشتاين يهودى متطرف فى دولة علمانية «للأسف لا يعرف الكثيرون أن الصهيونية نظام علمانى يعامل اليهودية كإثنية وليست كديانة».. مهاجر جديد فى مجتمع سبقته إليه أجيال تستحوذ على لعبة الكراسى الموسيقية، فضلا عن كونه عمليا يعيش فى «محمية» محاطة بالعرب، مجتمعه الاستيطانى فى الخليل أشبه بقزم أمام حشد من العماليق الكنعانيين الذين قرأ عنهم فى كتبه الدينية.
شخص كهذا كيف لا يسعى لأن يثبت وجوده بعمل صادم يضرب عددا من العصافير بحجر واحد، فيصبح اليهودى المتدين المهمش بطلا يثبت بـ«تضحيته» لأولئك العلمانيين والمتعجرفين أن الأحق بأرض إسرائيل هو اليهودى الحق المتدين، الذى هجر مسقط رأسه وجاء لأرض الميعاد، ليحمل سلاحه ويقضى به على حشد من العماليق!
راجع معى تلك المشاهد سالفة الذكر، وفكر معى.. ما العامل المشترك بين كل هؤلاء القتلة؟ ما الذى كان يحرك كل هذا القدر من العنف والاستباحة للدم؟
أجيبك بثقة: عقدة النقص
أراك تتساءل: وهل يمكن أن يكون الشعور بالنقص دافعا إجراميا؟
فدعنى أشرح لك كيف يمكن أن يكون كذلك، فى المقال المقبل إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة