في الوقت الذي يواصل فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سياسته القائمة على توسيع نطاق الصراع في منطقة الشرق الأوسط، عبر فتح جبهات جديدة، انطلاقا من غزة، مرورا بسوريا واليمن وحتى الأوضاع المتفاقمة في لبنان، تبدو تصريحاته الأخيرة حول عدم رغبته في خوض حرب مع إيران، مثيرة للجدل إلى حد كبير، في ضوء العديد من المشاهد، التي سبق وأن سعى خلالها إلى استدعاء شبح طهران، لتبرير معاركة المتعددة، في مختلف أنحاء الإقليم، ربما أبرزها في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في يوليو الماضي، حيث ارتكز خلالها على التهديد الذي تمثله، ليس فقط على إسرائيل وإنما على العالم، وهو ما حظى في حينه بتصفيق الأعضاء الجمهوريين بينما حظى بمقاطعة كبيرة من قبل نظرائهم الديمقراطيين.
ولعل مهادنة إيران، من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في اللحظة الراهنة، تمثل انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها ارتباط ورقة طهران، في رؤية تل أبيب، ليس فقط بالأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وإنما بالمستجدات التي تشهدها الساحة الأمريكية، فالتصعيد معها ارتبط بذروة الصراع في الداخل الأمريكي، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، بينما جاء الخطاب أكثر هدوءً مع نجاح المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، والذي يمثل أحد الرهانات الهامة في يد الحكومة الإسرائيلية، بما يعكس احتمالات وجود صفقة ثلاثية، تجمع واشنطن وطهران وتل أبيب، من شأنها تحقيق قدر من التهدئة الإقليمية بمجرد اعتلاء الرئيس الجديد عرش البيت الأبيض، في يناير القادم.
ويعد الحديث عن الصفقة المحتملة ليس قاصرا، في جوهره على الأوضاع الراهنة في المنطقة، وإنما يمتد إلى ملفات قديمة، تعود إلى ولاية ترامب الأولى، وأبرزها الاتفاق النووي، الذي سبق وأن انسحبت منه واشنطن في عام 2018، عندما دعا إلى اتفاق جديد، وهو الأمر الذي لم تبدي الحكومة الإيرانية بشأنه انفتاحا كبيرا، إلا أن الأمور ربما تشهد اختلافا كبيرا في المستقبل، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها وجود نظام أكثر اعتدالا، بالإضافة إلى مباركة القوى الإقليمية البارزة لأي اتفاق مع النظام الإيراني، من شأنه تحقيق الاستقرار الإقليمي، على عكس ما كان عليه الحال عند توقيع الاتفاقية الأولى، خلال حقبة أوباما، والتي لم تحظى بتأييد إقليمي كبير آنذاك.
توقيت المهادنة الإسرائيلية لإيران، لا يقتصر في أهميته على التزامن مع الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، على حساب منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، وإنما كذلك تبعيتها للقمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الرياض، والتي تناولت في قراراتها التحذير من توسيع رقعة العدوان، نحو العراق وسوريا وإيران، وهو ما يترجم الانفتاح الكبير بين الدول العربية وطهران، والتي تمثل أحد أهم المستجدات في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، في إطار حزمة من المصالحات التي تحققت لتحقيق قدر من الاستقرار الإقليمي، وهو ما ساهم بقدر كبير في تجريد نتنياهو وحكومته من أي دعم إقليمي إذا ما اختار طريق التصعيد مع طهران في المرحلة المقبلة، في ضوء التداعيات الكبيرة التي قد تترتب على مثل هذه الخطوة التصعيدية.
حديث نتنياهو المهادن لطهران اقترن بأحاديث أخرى عن رغبة إسرائيلية عارمة في وقف الحرب على الجبهة اللبنانية، وهو ما يمثل جزءً لا يتجزأ من صفقة ربما مازالت تفاصيلها غير معلومة، على اعتبار أن الحرب في لبنان، أو بالأحرى على حزب الله، ترتبط بصورة مباشرة بإيران، بالإضافة إلى كونها تتماهى مع رغبات المعسكر الغربي، سواء الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، والتي تعطي الأولوية للأوضاع في لبنان، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول مصير غزة، وما إذا كان القطاع سيكون جزءً من الصفقة المنتظرة.
فلو نظرنا إلى المعركة التي تخوضها إسرائيل في الشرق الأوسط، نجد أن الهدف الرئيسي منها هو تصفية القضية الفلسطينية، انطلاقا من غزة، عبر مساري تهجير السكان من خلال القصف والتجويع من جانب، وفصل القطاع عن الضفة من جانب آخر، لتجريد الدولة المنشودة من عنصري المواطن والأرض المتصلة جغرافيا، وهو ما يعني في نهاية المطاف تقويض الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، في حين تبقى المعارك الأخرى بمثابة محاولات للفت الأنظار عن الجرائم التي ترتكب في القطاع المحاصر.
وهنا يمكن القول بأن مهادنة نتنياهو لإيران، تحمل في طياتها العديد من التكهنات، في ضوء العديد من المعطيات الدولية، المرتبطة بالمستجدات في الداخل الأمريكي، بالإضافة إلى الأوضاع الإقليمية الراهنة، ناهيك عن الوضع في إيران نفسها، في ضوء رغبتها في الوصول إلى صفقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة من شأنها تحقيق قدر من الانفتاح على العالم.