حصل الطالب طه حسين على الدكتوراه من الجامعة المصرية يوم 5 مايو 1914، وكان أول مصرى يحصل عليها من هذه الجامعة، ثم خاطبته الجامعة بضمه إلى إرساليتها بباريس لدراسة التاريخ، وأن يكون سفره فى الأسبوع الأول من أغسطس، حسبما يذكر فى سيرته «الأيام».
سافر طه إلى أقصى الصعيد ليودع أبواه، وقضى معهما أسابيع، ويصف فى «الأيام» مشاعرهما التى أثارت شجونه قائلا، إنه كان يرى أباه مبتهجا أشد الابتهاج بسفر ابنه إلى أوروبا بعد أن ابتهج أشد الابتهاج كذلك بفوزه بدرجته الجامعية، كان يتحدث بذلك إلى أهله، ويتحدث به إلى الناس، وكان كثيرا ما يقول لأولئك وهؤلاء: لله فى خلقه شؤون، هذا أضعف بنى وأخفهم علىّ حملا وأقلهم نفقة، أتيح له ما لم يتح لإخوته الأقوياء المبصرين الذين كلفونى من النفقة ما أطيق وما لا أطيق، لم تتحدث الصحف عن واحد منهم، ولم يقابل الخديو واحد منهم، ولم يخطر لى ولا لواحد منهم أنه قد يسافر إلى أوروبا كما سافر إليها أبناء الأغنياء.
أما أمه فيصف مشاعرها، قائلا: «كانت راضية عما أتيح لابنها من نجاح، ولكن رضاها كان مرا ثقيلا، كانت تفكر فى حال ابنها وفيما سيعرض له من الخطوب فى بلاد الغربة، وفيما سيتكلف من الجهد ويحتمل من المشقة، وكانت كلما رأت ابتهاجه وابتهاج أبيه ثقل عليها هذا التفكير، وربما استخفت بدموعها حتى لا تنغص على الأسرة هذا الابتهاج».
عاد طه إلى القاهرة ليستعد للسفر، لكن الحرب العالمية الأولى اندلعت فى 28 يوليو 1914، فقررت الجامعة المصرية استرداد طلابها من أوروبا، ووقف سفر الجدد، فانتظر طه حزينا ومتألما، وبعد هزيمة الألمان أمام فرنسا سعى ممثلوها بمصر عند الحكومة والجامعة لإعادة الطلاب إلى الجامعات الفرنسية، فأعد طه عدته للسفر، ويذكر الكاتب السورى سامى الكيالى فى كتابه «مع طه حسين» أنه من أطرف وثائق الجامعة، ذلك الالتماس الذى قدمه طه للجامعة لتقرضه خمسة عشر جنيها ليشترى ملابس أفرنجية بدلا من زيه الأزهرى، ويسدد بالباقى أجرة الغرفة التى كان يسكنها قبل السفر، فصرفت له.
أبحر طه من الإسكندرية فى 14 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1914، وفقا لتأكيده فى «الأيام» ومعه أخوه ليعينه على الحياة الشاقة فى الغربة، وطالبان، واحد لدراسة القانون، والثانى خريج دار العلوم، وسافر للتخصص فى الأدب العربى، ويؤكد طه، أن الجامعة رفضت أن تتحمل نفقة أخيه، فاضطرا معه أن يعيشا براتب واحد على ما فى ذلك من ضيق وشدة، وقبلت الأسرة أن تعينهما بمال يسير بين حين وحين.
يتذكر طه أن سفره كان على سفينة فرنسية فقيرة حقيرة رخيصة، واسمها «أصبهان»، وكانت السفن تعبر البحر بين الإسكندرية ومارسيليا فى أربعة أيام، فأما أصبهان فكانت تحب البحر، وتؤثر أن تعبره فى ثمانية أيام لا فى أربعة، ويكشف أنه حتى وقتئذ كان يرتدى زيه التقليدى «جبة وقفطان»، ولما حانت اللحظة التى سيخلعه فيها على السفينة يشعر بأنه ينتقل من عالم إلى عالم، يتذكرها قائلا فى كتابه «فى الصيف»: «كنت أرانى حين تركت مصر لأول مرة شيخا معمما قد صعد إلى السفينة يتعثر فى أذيال جبته وقفطانه اللذين كانا يزيدانه حيرة إلى حيرته الطبيعية التى قضت بها عليه عاهته التى حالت بينه وبين الضوء، فلم أكد أصل إلى غرفتى حتى طارت العمة عن رأسى، أريد أن أتذكر إلى أين، فلا أجد إلى ذلك سبيلا، كل ما أعرفه أننى خلعتها حين دخلت الغرفة، ثم لست أدرى إلى أى حال صارت، ولو قد عثرت عليها لحفظتها تذكارا باقيا».
كانت معاناته الشخصية فى السفينة من نوع خاص، يذكرها فى «الأيام» قائلا، إنه لزم غرفته منذ أن دخلها إلى أن خرج منها، ولم يذهب إلى غرفة المائدة، ولم يعرف الجلوس إلى موائد الطعام، ولم يحسن استعمال أدوات الطعام، ولم يستطع أن يأكل أمام المسافرين من الأوروبيين بيديه كلتيهما أو إحداهما، كما كان يصنع فى مصر، وكان الرفاق قد وكلوا به خادما من خدم السفينة يحمل إليه غداءه وعشاءه، فكان يحمل إليه الطعام فى موعده، فيضعه بين يديه ثم ينصرف عنه، ويغلق باب الغرفة من دونه، ثم يعود إليه بعد حين، ليحمل ما وضع بين يديه من أطباق، وكان كلما عاد إلى حمل هذه الأطباق قال الفتى فى ضحكة حزينة جملة بعينها لا يغير منها حرفا وهى: «ما أقل ما تصيب من الطعام».
وصلت السفينة مدينة «مونبلييه»، فشعر بأقصى درجات السعادة والرضا، لأنه حقق أملا لم يكن يقدر أنه سيحققه، وحسب اعترافه: «كان يكفيه أن يفكر فى صباه البائس الذى قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا، تشقى نفسه فى الأزهر، ويشفى جسمه ونفسه فى حوش عطا».