منذ أسبوعين، عادت الروح من جديد إلى حديقة الأندلس الأثرية واستعادت مرة أخرى، بهاءها ورونقها وسنوات الذوق والجمال بعد إهمال طال زمنه، أنارت أضواء الحديقة من جديد صفحة النهر الخالد التى انسابت مياهه وأمواجه الهادئة فى بهجة وفرحة وتراقصت مع صدى أيام وليالى الفن فى الخمسينيات والستينيات وحتى شهر أكتوبر من عام 76 حيث كانت جارة القمر فيروز والأخوان رحبانى وفرقة الفنون الشعبية اللبنانية آخر من غنوا بالحديقة فى واحدة من أجمل وأبهى حفلاتها.
يوم الاثنين قبل الماضى وفى ختام فعاليات اليوم الأول للمنتدى الحضرى العالمى الذى استضافته مصر بمدينة القاهرة مؤخرا، كانت حديقة الأندلس الأثرية على كورنيش النيل بالجزيرة بجوار كوبرى قصر النيل، على موعد مع عرسها الجديد بعد تطويرها لتشرق وجه القاهرة التاريخية وافتتاحها بحضور الدكتورة منال عوض، وزيرة التنمية المحلية، والمهندس شريف الشربينى، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، والسيدة أنا كلوديا روسباخ وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والمديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية «الهابيتات»، والدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة وكبار المسؤوليين.
شريط من الحنين والذكريات الحلوة مر على ذاكرة كل من حضر حفل الافتتاح الذين أكدوا أن افتتاح الأندلس يأتى فى إطار خطة الدولة لإحياء القاهرة الخديوية التاريخية، وتمكينها من أداء «دورها التاريخى والثقافى والحضارى» والاهتمام بالحفاظ على التراث وإعادة إحيائه والحفاظ على المسطحات الخضراء.
أعمال تطوير الحديقة شمل رفع كفاءة البنية التحتية وإصلاح شبكة الرى بالحديقة ليتم بالتنقيط، وتطوير شبكة صرف النافورة الموجودة فى الجزء الفرعونى بها، وترميم نماذج التماثيل الأثرية الموجودة داخل الحديقة، إضافة إلى ترميم تماثيل ثعابين الكُبرى الموجودة فى الجزء الفرعونى للحديقة، وإزالة كل ما يعوق زائرى الحديقة من التمتع برؤية نهر النيل، مع إضاءتها بالإضاءة التى تعطيها شكلا جماليا للسائر فيها أو عند رؤيتها من أعلى برج القاهرة.
هنا حديقة الأندلس واحدة من معالم القاهرة التاريخية الأكثر روعة وجمالا منذ أن تقرر إنشاؤها عام 1929 وافتتاحها رسميا عام 1935 فى عهد الملك فؤاد الأول والد الملك فاروق آخر حكام مصر من الملوك ومن أسرة محمد على الكبير.
هنا كانت السينما والفن فى خدمة الذوق والجمال والمتعة والسياحة قبل أن تزحف مظاهر الإهمال على معالم الحديقة الأثرية وتبدو فاقدة للروح، أو تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإن ظلت مسحة من الجمال والأناقة القديمة تقاوم معاول التردى قبل أن يتم إغلاقها لعشر سنوات كاملة 10 سنوات من عام 1991 حتى 2001 بحجة الترميم، ورغم افتتاحها فى أبريل من نفس العام، إلا أن زوار الحديقة تمنوا ألا يحدث التطوير ولا الترميم، وعاد الإهمال من جديد قبل التطوير والافتتاح الجديد لتعود شمس الحديقة الذهبية.
هنا وقفت فيروز بشموخها الفنى لتغنى «مصر عادت شمسك الذهب»، وغنت فرقتها أغانيها اللبنانية الجميلة لمدة ثلاثة أيام وسط أعداد كثيفة من المصريين والعرب، فيروز أضافت إلى جمال حديقة الأندلس جمالا فيروزيا خاصا، ربما كان صدى صوتها الدافئ الساكن فى الوجدان وصوت باقى أعضاء الفرقة تكاد أن تنطق به جنبات الحديقة المبهرة كأنها كانت تستغيث وتشكو قسوة الإهمال.
الأندلس تعتبر إحدى أقدم الحدائق التاريخية فى منطقة وسط البلد حيث أقيمت على مساحة 11 ألف متر مربع تقريبا، أى أكثر من فدانين ونصف الفدان، وتتكون من جزءين، الجزء الجنوبى يسمى حديقة الفردوس العربية وهى على نمط الحدائق العربية الأندلسية الموجودة فى جنوب إسبانيا وتوجد بها أشجار معمرة يتجاوز عمرها الـ70 عاما، والجزء الشمالى يسمى الحديقة الفرعونية، وقد تقرر ضم الحديقة ضمن قائمة الآثار الإسلامية والقبطية.
الجزء الجنوبى يتميز بوجود جوسق «مظلة مقامة على أعمدة مزدوجة تحمل عقود أندلسية تحمل السقف»، وهو حافل بالزخارف الأندلسية العربية الهندسية والنباتية، ويتوسط الجوسق تمثال لأحمد بك شوقى أمير الشعراء من نحت المثال محمود مختار وهذا الجوسق «الظلة» يقع فى الطرف الشمالى لهذه الحديقة ويواجه التمثال من امتداد الحديقة جنوبا، وتلى التمثال مباشرة خمسة تماثيل على شكل أسود ينبثق منها الماء الى بركة مستطيلة منخفضة تتوسط الحديقة تحوى نافورتين رخاماتين، ويحيط بالبركة من كل جانب من الجوانب الأربعة ثمانية مدرجات متصاعدة مزروعة بالنجيل وفى الزوايا الأربعة ممرات متدرجة متصاعدة مبلطة بالرخام والفسيفساء المستوردة من إيطاليا وتركيا تؤدى الى المستوى الأعلى للحديقة الذى يتكون من ممرين مبلطين بالرخام والقاشانى المتعدد الألوان ويحدد الممرين صفان من الأشجار وفى الجوانب الأربع دكك رخامية للجلوس ملاصقة لسور الحديقة الحديدى المقام فوق جلسات حجرية، ويفصل بين الدكك قدور رخامية تحوى عبارة «لا غالب إلا الله» وهو شعار الأغالبة الذين حكموا المغرب والأندلس، ويلى ذلك جنوبا جزء من الحديقة يحتوى على نافورة رخامية ثمانية الشكل يتوسطها عامود رخامى يحيط به ثمانية تماثيل أسود ينبثق منها الماء، ويحيط بزوايا المثمن الخارجى ثمانية ضفادع رخامية ينبثق منه الماء وعلى جانبى النافورة برجولتان «مظلتان» خشبيتان ويلى النافورة نخيل ملوكى، وممرات الحديقة مبلطة بالبلاطات القاشانية المتعددة الألوان. اما بالنسبة للحديقة الفرعونية فهى تقع فى الجزء الشمالى فى جانبها الجنوبى بوابة فرعونية يتوسطها نموذج تمثال شيخ البلد مواجه للحديقة التى نتشر بها النخيل الملوكى وغيرها من الأشجار وتنتشر فى جوانب الحديقة الفرعونية نماذج لتماثيل فرعونية مختلفة الأشكال.
السينما منذ نهاية الأربعينيات وفى الخمسينيات والستينيات لم تقاوم جاذبية حديقة الأندلس وإبهارها وجمالها، صناعة السينما فى ذلك الزمن كان لديها اهتمام خاص بإظهار معالم القاهرة ومدن مصر الجميلة عموما ومنها الأندلس واهتم صناعها بإبراز الأماكن التى تحمل عبق ورائحة الماضى وآثر الحاضر والتى كانت سببا مباشرا للترويج للجمال والسياحة لدى الطاقم الفنى والجمهور وتشجع المشاهدين على الذهاب إلى تلك الأماكن والحديقة والتى مازالت تحتفظ بمزايا جمالية خلابة .
غنى فيها العندليب الأسمر أول أغانيه «صافينى مرة»، التى لم تعجب الجمهور فانصرف عنه، لكنه لم ييأس وواصل أداء أغنيته مرة إخرى فى حديقة الأندلس، حتى حازت إعجاب الجماهير تحديدا يوم 18 يونيو من عام 1953 فى «حفلة أضواء المدينة» التى اعتبرها حفلته الرسمية الأولى، وكانت أيضا أول احتفال رسمى بإعلان الجمهورية فى مصر بعد ثورة يوليو، وبعدها باتت الحديقة بمثابة وش السعد للعندليب وتميمة الحظ، فأحيا فيها عدة حفلات جماهيرية كبيرة، أمام عبدالناصر وكبار الضباط الأحرار كما أدى فيها أجمل الأغانى التى غناها لبطلات أفلامه، ومنها «حكاية حب»، و«موعد غرام» و«معبودة الجماهير» وفيلم «الوسادة الخالية».
كانت من أشهر الأغانى التى ما زالت عالقة بأذهاننا حتى الآن أغنية «حاجة غريبة» مع الفنانة شادية والتى لحنها منير مراد وكتبها حسين السيد، وقد تم تصوير الفيلم - يناير 1967، ليلا بالحديقة وكان اختيارا موفقا من المخرج حلمى رفله، فالتصوير الليلى ساعد على إبراز جمال الحديقة والتى تتزين مقاعدها بالفسيفساء والرخام والتى تحمل الطابع العربى الأوربى،
وفى حديقة الأندلس أيضا تم تصوير واحدة من المشاهد المهمة فى فيلم «حكاية حب» عام 1959، حيث اقترح عبدالحليم حافظ، بطل الفيلم طبقا لأحداث الفيلم أن تقوم الإعلامية آمال فهمى، من خلال برنامجها الشهير «على الناصية» بلقاء مطرب مغمور وتتعرف على أغانيه، وبالفعل تم التحضير لهذا اللقاء على أن يبدو طبيعيا وأن تقابل آمال فهمى المطرب عبدالحليم حافظ بالصدفة ليغنى لها أغنيته «باحلم بيك»، وفى الحديقة تم التصوير، ويظهر لأول مرة سمير صبرى بالصدفة بين الكومبارس ليردد خلف حليم «باحلم بيك أنا باحلم بيك».
فى الحديقة تم تصوير فيلم «فاعل خير» عام 1953 للمطرب محمد فوزى، والمطربة صباح، وظهرا وهما يتحركان فى جميع أرجاء الحديقة بمصاحبة الكاميرا.
وفيلم أمانى العمر عام 1955 للفنان سعد عبدالوهاب وزهرة العلا وماجدة، حيث غنى لزهرة أغنية «وأنت ويايا والهنا معايا» وظهرت فى الفيلم معظم معالم الحديقة الجميلة.
وفى عام 1964 ظهرت الحديقة فى فيلم «أمير الدهاء» بطولة الفنان فريد شوقى ونعيمة عاكف وشويكار وتوفيق الدقن ومحمود مرسى وإخراج هنرى بركات، وكانت أول مرة تبدو معالم الحديقة وتفاصيلها بالألوان.
وبعد 30 عاما تقريبا تعود السينما إلى الحديقة فى مشهد صغير من فيلم «حكايات الغريب» للفنان محمود الجندى ومحمد منير وشريف منير وصفاء الطوخى، ويظهر شريف منير ببدلة العسكرية مع خطيبته صفاء الطوخى وهو يحكى لها عن أحلامه معها واحلام الوطن.
وربما آخر فيلم تظهر فيه حديقة الأندلس هو فيلم «سمير وشهير وبهير» عام 2010.
لم تقتصر جاذبية حديقة الأندلس على تصوير الأفلام فقط بل أقيمت مهرجانات للأزياء وملكات الجمال، فهنا حصلت الفنانة الراحلة رجاء الجداوى على «وشاح سمراء القاهرة» فى كرنفال بالحديقة عام 1958، وحصلت أيضا من خلاله على جائزة «ملكة حوض البحر المتوسط».
إضافة للأفلام السينمائية أقيمت فى الحديقة فى الستينيات والسبعينات حفلات غنائية للمطربين مثل عبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمد فوزى، ومحمد رشدى، وتبقى فيروز آخر من غنى بالحديقة.
عادت حديقة الأندلس فى انتظار أن تعود اليها «ليالى الوصل» لتشرق بإشعاعها الثقافى والفنى والحضارى من جديد.