دخل الأديب الروسى العالمى تولستوى غيبوبته الأخيرة، وفى لحظة إفاقة قال: «الفلاحون، الفلاحون، هم الذين يجب أن تنظروا إليهم وهم يموتون»، ثم دخل ثانية فى غيبوبة طويلة، وتنبه قليلا ليجلس فى فراشه، وأخذت ابنته «ألكسندرا» وابنه «سرج» يصلحان له الوسائد تحت رأسه، وسألاه: «هل تريد شيئا؟»، فأجاب بصوت فيه بقية من قوة: «لا، لا، أريد فقط أن أنبهكم إلى أنه يوجد فى العالم خلائق كثيرة غير «ليو تولستوى»، إنكم لا تنظرون إلا إلى «ليو تولستوى»، وفاضت روحه فى 20 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1910، حسبما يذكر الكاتب طاهر الطناحى فى كتابه «الساعات الأخيرة».
توفى مبدع «الحرب والسلام» و«أنا كارنينا» و«موت إيليتش» وغيرها وعمره 82 عاما، وكان موته حدثا حزينا، فهو من أهم أعمدة الأدب الروسى والعالمى منذ القرن التاسع عشر، وسيد الرواية الواقعية، وأحد أعظم الروائيين فى التاريخ الأدبى العالمى، وفقا للشاعرة والمترجمة «مها جمال» فى مقدمتها لترجمتها روايته «موت إيفان إيليتش».
تؤكد «جمال» أنه عاش موضع إكبار من معاصريه، وتذكر: «كان ديستوفسكى يعتبره أعظم الروائيين الأحياء، وكتب تشيكوف الذى كان كثيرا ما يقوم بزيارته فى إقطاعيته: حينما يملك الأدب «ليو تولستوى» فمن السهل والمبهج أن تكون كاتبا، حتى لو كنت تدرى أنك لم تحقق شيئا، وأنك لا تزال لا تحقق شيئا، وذلك ليس أمرا ليس مريعا كما ينبغى أن يكون، لأن تولستوى يحقق من أجل الجميع».
تضيف مها جمال: «اعتبرته فرجينيا وولف «أعظم الروائيين»، وترى: «تناول فى قصصه الفلاح المقهور، والفقير والإقطاعى القاسى، والقيصر والنبلاء، والمرأة وذوى الإعاقة، وحق كل هؤلاء فى حياة مسالمة خالية من الشرور، ولم يكف عن تسجيل الحياة المنحرفة لأراذل الملوك والأباطرة والديكتاتوريين والقادة العسكريين، ووصف تلك الحياة التى يلعبون فيها دور تشويه الحقائق، وكذلك منظومة الحياة الاجتماعية التى كانت سائدة آنذاك، وقاوم الكنيسة الأرثوذكسية فى روسيا، ودعا إلى السلام وعدم الاستغلال، وعارض القوة والعنف فى شتى صورهما، ولم تقبل الكنيسة بآرائه التى انتشرت، فكفرته وأبعدته عنها، وأعجب بآرائه عدد كبير من الناس كانوا يزورنه فى مقره بعد أن عاش حياة المزارعين البسطاء تاركا عائلته الثرية المترفة».
حدث تحول كبير فى حياته الروحية والنفسية وأفكاره فى السبعين من عمره، وفقا للناقد رجاء النقاش فى كتابه «عباقرة ومجانين»، مضيفا: «كان يحلم بتوزيع ثروته كلها على الفلاحين، وأن العمل اليدوى هو الشىء الوحيد الذى له قيمة فى الحياة، أما الأدب والفن وما إلى ذلك لا نفع فيها ولا أهمية لها، ومن أقواله فى تلك المرحلة: «إن أى جزمجى أنفع للحياة والإنسانية من شيكسبير»، وبدأ العمل بيديه، فكان يرتق أحذيته القديمة بنفسه بل كان يصنع الأحذية أحيانا، ويعمل فى الأرض مع الفلاحين، وقرر التنازل عن كل أملاكه لهم، وهنا عارضته زوجته أشد المعارضة، وبدأت تخشى على مستقبلها ومستقبل أولادها من هذا الزوج العبقرى الذى أصابه الجنون فى نظرها، وأراد أن يدمر نفسه وأسرته».
يضيف النقاش: «سيطرت هذه النزعة الإنسانية الفياضة على تولستوى تماما، وأصبح يحلم بأن يعيش مثل الناس العاديين من الفقراء، ويتعذب مثلهم، ويكسب قوته بيديه كما يفعل الآخرون، ويترك القصور الفاخرة ليقيم فى الأكواخ الفقيرة الخشنة التى يعيش فيها الفقراء، والتف حوله عدد من تلاميذه الذين آمنوا برسالته، ودارت معركة طاحنة بين هؤلاء التلاميذ وبين زوجته التى تتهمهم بأنهم منافقون لصوص يريدون السطو على ثروته».
هكذا جمع «تولستوى» بين ثنائية «إبداع الكتابة الروائية، ورؤية المفكر الأخلاقى والمصلح الاجتماعى»، ودفعته رؤيته لأن يتطلع إلى الشرق، تذكر «جمال»: «قرأ القرآن الكريم فى ترجمته الفرنسية، ولا تزال نسخة موجودة بمكتبه فى بيته الذى تحول إلى متحف فى قريته «ياسنا يابوليانا»، وعلى هوامشه ملاحظات تؤكد تمعنه فى قراءة القرآن».
زار ابنه مصر عام 1904، ولما وصل لأسوان كتب إليه مطالبا بأن يزوده بمعلومات حول الشرق، وفى نفس العام جرت مراسلاته مع الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية، وفى 8 أبريل 1904 كتب الإمام رسالة إليه، فرد عليها، والرسالتان محفوظتان بمتحف «تولستوى» فى روسيا، حسبما يؤكد الدكتور مالك منصور حفيد الإمام محمد عبده فى تقرير «رسالة نادرة بين محمد عبده وتولستوى» للكاتب الصحفى أشرف عبدالحميد»، بموقع «العربية، 20 فبراير 2018».
تذكر مها جمال، أنه بعد أن شاع خبر موته تقاطر الكتاب والفنانون والأتباع والفلاحون على ضيعته، واكتظت القطارات من موسكو إلى «كراسنايا» بالناس لحضور جنازته، وحمل نعشه حشد من الفلاحين، وأنشدت جوقة من مائة منشد اللحن الجنائزى، ومشى نحو عشرة آلاف شخص فى موكب الجنازة، لكن الكنيسة الروسية التى طردته منها، منعت رجال الدين من حضور الجنازة، لأنه صرح علنا بأن علاقته مع الله لا تحتاج إلى وسيط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة