ما الذى جعل أم كلثوم سيدة الغناء العربى والأعظم فنيا؟، أى خلطة سحرية امتلكتها لتعبر بها الأزمنة والأمكنة؟، تتعدد الإجابات وتتنوع، لكن شأنها يكون عظيما من الموسيقار محمد عبدالوهاب بقيمته التاريخية العظيمة، كما فى مقاله النادر «وسواسة أكثر منى» المنشور بمجلة «الكواكب» فى عددها الخاص «أم كلثوم» رقم 851»، فى 21 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1967، والذى صدر بعد النجاح الباهر لحفلتيها على مسرح الأولمبيا فى باريس، نوفمبر 1967، ضمن مشروعها لدعم المجهود الحربى عقب هزيمة 5 يونيو 1967.
يعترف «عبدالوهاب» بأن صلته بأم كلثوم كانت صلة أفراد فى أسرة واحدة هى «أسرة الطرب»، ولهذا ظل ما يعرفه عنها «سماعى» حتى اقترب منها مع أغنية «انت عمرى»، ثم «أمل حياتى» و«انت الحب» وفكرونى»، وبعدها أتيح له فرصة ذهبية ليراها عن كثب، ويكتشف بعدها أنها أعظم فنا مما يبدو، وأعمق إخلاصا مما يقال، وأكبر طاقة مما تظهر.
يفسر عبدالوهاب ما يذكره، قائلا : «هى أعظم فنا مما يبدو، لأن بعض الناس خاصة الجيل الجديد يتصورون أن أم كلثوم رائدة الأغنية الكلاسيكية ذات الوزن والحجم والرسم، الأغنية الطويلة التى تناسب عشاق الطرب فى جيل غير هذا الجيل الجديد، ولكنهم لا يعرفون عنها أنها رائدة فى مجال التجديد، وتسعى إلى كل جديد بغير تردد، ما دامت تخضعه للدراسة والتذوق الذكى، وحبها للتجديد هو الذى فتح الباب للجيل الجديد من كتاب الأغنية بعد أن ظن الناس أنها حكر على هذا المؤلف أو ذاك الشاعر، وفتح للجيل الجديد من الملحنين بعد ظن الناس أن ألحانها تتوزع بين فلان من الملحنين أو علان».
يضيف عبدالوهاب: «أم كلثوم تواجه بالأغنية كل الأغراض والمعانى الجديدة فى حياتنا، فإذا فتشت فى دواوين الشعر عن قصيدة فهى تفتش عما يرتبط بواقع الناس أو روحانياتهم، حتى وهى تنقب عن الكلاسيك من القصيد تختار ما يتفق وروح الزمان الجديد».
ينتقل عبدالوهاب إلى الجانب الثانى فى عظمة أم كلثوم ويراه فى «الذوق الأسطورى فى اختيار الكلمة واستساغة اللحن»، ويوضح: «أقول هذا بعد أن عشت معها قصة كل أغنية التقينا بها، كانت تزن كل كلمة فى كل مقطع، فإذا تعثرت الكلمة على أذنها فإنها تقف عندها وتقول إنها أحست بعدم الارتياح، وقد تضع هى الكلمة المناسبة، أو تقول المعنى فيجد المؤلف الكلمة، ولها قدرة عظيمة على تتبع المعنى الذى يتصاعد داخل الأغنية، لأن الأغنية عندها عمل درامى وقصة متكاملة، وفى مدرسة أم كلثوم هذه نضج الموهوبون الذين حرصوا الإفادة من توجيهاتها، أما الذين كانت تدركهم العصبية ويدعون أن كرامتهم أومكانتهم الأدبية لا تسمح لهم بالخضوع لتوجيهاتها فأولئك خسروا فرصة ذهبية كان يمكن أن يصقلوا فيها مواهبهم، ويتلقوا من سيدة الكلمة الأنيقة كيف يتأنقون فى المعنى وهم يفكرون ويدققون فى الكلمة وهم يختارون، ولا أعتقد أن أغنية حديثة مرت على أم كلثوم دون أن تتناولها بتعديل كلمة هنا أو معنى مشوب هناك، فيما ندر تسكت أم كلثوم».
يضرب عبدالوهاب مثلا، قائلا: «إذا كان الأمر أمر قصيدة تختار، فهى خبيرة الجواهر التى تختار الأبيات ببراعة منقطعة النظير، تختار عشرين بيتا من قصيدة فيها مائة بيت، ولو اجتمع عشرة من جهابذة اللغة العربية وأساتذة الموسيقى ليختاروا عشرين بيتا لما تجاوزوا أبيات أم كلثوم، على أنها قادرة على المزج بين قصيدتين للشاعر الواحد، ما داما من نفس البحر والقافية دون أن يلحظ ذلك المستمع».
يضيف عبدالوهاب: «إذا جاء دور الملحن فأم كلثوم صاحبة أذن موسيقية من طراز فريد، وأذنها الموسيقية هى التى تعينها على الغناء المعجز الذى تنتظره الملايين بلهفة، فإذا تردد كثيرا فإنه يزداد عمقا وتفتحا فى كل القلوب، فإذا سمعت لحنا فإن الذى تبديه من الملاحظات ملاحظات خبيرة ظلت أكثر العمر فى صميم النغم، والملحنون يعرفون هذا، ولهذا يشحذون عبقرياتهم ليخرجوا لها أحسن ما عندهم»
وعن أدائها فى الغناء يؤكد «هى القادرة على التصرف دون سواها، وإذا تصرفت فالجمهور يحس أن الإبداع إبداعها ويجن جنونا، وإذا أعادت فكأنها مقرئ قرآن رخيم الصوت يثبت المعانى فى القلوب كأنها قدسية، وإذا سكتت على المسرح فإن بدنها يقول مع الأنغام، وتظل بالمنديل المعصوم بين يديها شابكة كل الآذان بحنجرتها الذهبية».
يضيف: «ليس أخلص منها للفن ولا أوفى، هى قادرة على أن تستمر فى أداء البروفات عشر ساعات بغير انقطاع، لا أنسى أننا مرة أمضينا فى البروفات اثنتى عشرة ساعة كاملة هلك فيها الموسيقيون، وأدركنى همدان شديد، أما أم كلثوم فكانت تخجلنا بحيويتها ونشاطها، وكنت أظن أننى «فتى» مصر الأول فى التدقيق والحساسية التى يصفها بعض الناس بالوسوسة، ولكن وجدت أم كلثوم أكثر وسوسة منى، وهى مستعدة لأداء جملة موسيقية خمسين مرة حتى ترتاح لها أذنها مائة فى المائة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة