فيروز فى عيد ميلادها.. سفر التكوين

الخميس، 21 نوفمبر 2024 12:00 م
فيروز فى عيد ميلادها.. سفر التكوين الفنانة فيروز
أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

احتفلت هذا الأسبوع الفنانة الكبيرة فيروز بعيد ميلادها الـ90، فهى من مواليد 20 نوفمبر 1935، قضت معظم هذه السنوات فى إمتاع الناس بالغناء والموسيقى، وصارت مع الزمن واحدة من أهم فنانى الشرق.. لكن كيف كانت بداياتها؟

 

يقول كتاب "فيروز سفيرة المحبة" لـ لحداد زياد جمال، تحت عنوان:

في البدء كان الكلمة ...

بدأ الزمن الجديد للفن في لبنان مع انتقال عائلة وديع حداد من "الشوف" إلى منطقة البطريركية في بيروت، واستقرارها في هذه المنطقة لعدة سنوات، ونتيجة لظروف معينة انتقلت العائلة إلى بيروت القديمة، وسكنت في محلة اسمها "زقاق البلاط" في الحي القديم الغافي على كتف بيروت، و كان سكانه من المهاجرين من جميع القرى الراغبين بالاستقرار في بيروت باحثين عن حياة أفضل سكنت عائلة وديع حداد في نزل مشترك بغرفة واحدة، وبخدمات مشتركة مع أصحاب الغرف الأخرى، وكان النزل يدعى بملك "صفصوف" ، كان النزل قديم البناء، مكون من غرف كثيرة متقابلة تتوسطها بركة ماء كبيرة، ولم يكن في هذه الغرف حمام خاص، أو مطبخ خاص، بل كان الحمام، والمطبخ واحداً، ومشتركا في ما بين هذه الغرف جميعها، أي أن البيت كان عبارة عن غرفة واحدة يشغل الفراغ الأعلى الجزء الأكبر من حجمها.

وفي نوفمبر عام 1935، كانت نهاد أول من ودعت رحم أمها، ليزا "اليزابيث" البستاني لتنتقل إلى حضن والدها وديع حداد، وبين هذه المسافة القصيرة مكانياً بين الرحم، والحضن ، والطويلة زمنيا عاشت نهاد حداد بأمان، ودفء، وحنان انعكس بشكل واضح على تكوين شخصيتها المستقبلية مع أن فيروز لم تحاول إلقاء الضوء على هذا الجانب من حياتها في أي مناسبة، ولا إثارته، إضافة إلى أن المراجع التي تعنى بفن، وحياة فيروز لم تعطي هذه المرحلة حقها، ولكننا نحس، وندرك مدى أهمية تلك المرحلة في حياة فيروز، من خلال الوقار، والتواضع والحنان، هذه هي الصفات التي امتازت بها فيروز ودون أدنى شك فقد نجحت بها بتفوق في مدرسة وديع حداد الأب الذي ينتمي إلى جذور سريانية عربية عريقة، وليزا البستاني الأم ابنة العائلة العريقة في الأدب، والآداب ليس على مستوى لبنان بل على المستوى العربي فمن أبناء هذه العائلة فؤاد افرام البستاني صاحب دائرة المعارف وعبد الله البستاني صاحب "معجم البستان"، وقد درس كوكبة من الأدباء العرب أمثال خليل مطران وشکیب ارسلان، وإسعاف النشاشيبي، والأخطل الصغير، ومن البساتنة سليمان البستاني مترجم "الإلياذة"، ووديع البستاني مترجم "مهابهاراتا Mahabharata " الهندية، و"رباعيات الخيام"، والمعلم بطرس البستاني أحد المنورين الرواد في النصف. الثاني من القرن التاسع عشر، وصاحب صحيفة تغير سورية"، وصاحب "محيط المحيط"، وهو أول من قام بترجمة العهد الجديد إلى العربية ، حيث طبع أول مرة في عام ۱۸۷۷، والمعروفة بطبعه "البستاني - فإندايك"، هذه هي أصول جذور فيروز من ناحية الأم، جذور عريقة، وعربية متشابكة بالفكر، والعطاء، جاءت من تاريخ بعيد، وعريق.

في مقالة بعنوان "أختي وأنا" كتب جوزيف وديع حداد شقيق فيروز عن السيدة والدته يصف أسلوب تربيتها لهم فيقول:" أنشأتنا على محبة الآخرين، لا تحسدوا الآخرين، اقتنعوا بما تملكونه ، و دائما أحبوا بعضكم بعضا، كانت تلك كلماتها اليومية لنا، حتى رحيلها المبكر في العام 1961 وكان عمرها آنذاك 45 عاماً.

وعن الوضع الاقتصادي للعائلة، كتب فقال: "مرحلة شبابنا كانت مليئة بالألم، والفقر، ولكننا نشأنا على الكرامة، وعزة النفس وعن نهاد قال: "لقد وهب الله أختي فضائل الصمت والاحتمال، ومحبة الآخرين دايماً كنت أعتبرها أكثر حكمة، و أقوى مني طبيعتها الحقيقية الطيبة كانت تتجل في وقائع بسيطة لا أزال أذكرها، أثناء طفولتي كنت أخاف العتمة، وكان أبي واعياً لذلك، كان يحاول مساعدتي بأن يضع برتقالة خلف البيت، ويقول لأختي، ولي "من يجلب البرتقالة سوف يحصل على مصروف أكثر يوم الأحد، دون أي تردد كانت نهاد تخرج لتحضر البرتقالة وتعطيني إياها، دون علم والدي. لذلك كان بإمكاني الحصول على نقود أكثر. بالطبع هذا شجعني فيها بعد لأن أحضر البرتقالة بنفسي فتغلبت على خوفي من الظلام، ولم تتوقف عن العناية بي حتى بعد أن كبرنا، كان لديها نزعة عفوية قوية إلى الغناء منذ نعومة أظافرها، في ليالي الشتاء، ومع جمعه من الجيران كثيراً ما كانت تدهش الجميع بغناء أغنية ما. كانوا فقراء الحال، وكانت تسعدهم بغنائها"، يذكرني هذا بأغنية "أقول لجارتي " ... " فإن غناءك يخلي انتظاري أقصر".

ويستمر سفر التكوين العائلة وديع حداد بالكتابة، وتستمر عطايا تبع المحبة فيولد جوزيف، وهدى، وأماني، وبذلك يكتمل سفر تكوين هذه العائلة بستة أفراد، وكان مسير أفراد العائلة بشكل متباين لدرجة كبيرة، فقد سارت هدى على طريق فيروز، أما بالنسبة إلى أماني، وجوزيف فقد اختاروا الحياة العادية.

نهاد تنمو في جو طاهر، وعفيف، وحياة متواضعة شبيهة بصوت فيروز الحنون الوالد كان يعمل في جريدة "اللوجور Le four "، في بيروت التي أسسها ميشيل شيحاء وهو مفكر لبناني معروف، والتي كان رئيس تحريرها لفترة طويلة من الوقت، وكان يعمل بها شارل الحلو الذي أصبح فيما بعد رئيس الجمهورية اللبنانية، وكان الأجر الذي يتقاضاه وديع حداد متواضع جدا، فكان يعمل منصد للحروف، يجمع الأحرف لتصبح فيما بعد خيرا، ولم يكن يعرف بأنه سيأتي يوم يعمل فيه الكثيرون لينضدوا الأحرف التي تتكلم عن أعمال ابنته نهاد.

تدور الأرض حول الشمس مرات كثيرة، ولا تعرف العائلة ماذا سيكون شأن هذه الطفلة، ما هو مستقبلها ؟ ولم يعرف أفراد العائلة أن بينهم الماسة الخام الأكبر، والأجمل في هذا العالم، ولا هي كانت تدرك ماهية ذاتها، لم تعرف أنها "عصفورة الساحات التي أهلها نذروها للشمس والطرقات والسفر الطرقات كما غنت في أغنية " ليالي الشمال الحزينة"، وفيها بعد صار صوت المولودة جزءاً من ناموس الطبيعة، وإضافة جديدة التضاريس الجمال فيه، فجمال الشمس، وحلاوة القمر، وصمت النجوم، وصوت فيروز شكلوا مع بعض الإطار العام لأجمل لوحة في هذا الكون، لوحة السماء، وأصبح صوت فيروز الروح لهذه اللوحة الربانية الجميلة. ولم يكن يعرف أحد أن الشمس تتمنى أن تحدثها، وأن القمر يتمنى أن تكون جارته، وكانت فيروز وفيه لقنديل هذا العالم فغنت له أغان كثيرة، وغنت للشمس أيضاً، وإذا كانت الخطوات الأولى "لنيل أرمسترونج" على سطح القمر بمثابة جرح قاس في جسد الرومانسيين الأدبي، فإن غناء فيروز عن القمر كان خير مضمد لهذا الجرح، وقد أعادت الإعتبار له في ذهن ، وفكر الرومانسيين وغيرهم، وخاصة العشاق منهم، وغنت له أجمل الأغاني حتى أصبحت جارته العزيزة.

السنوات الأولى لنهاد كانت في منزل العائلة المتواضع، تنظر من الشباك إلى هذا العالم لتجد صعوبة في تفسير كثير من الظواهر التي تحيط بها، ولم تكن تعرف بأنها ستكون فيما بعد، جزءاً هاماً وفعالاً ومؤثراً في هذا العالم بل ستصير جزءاً من ضميره الحي، وفرداً فعال في الأسرة الدولية، ولم تكن تعرف بأن صدى صوتها سيصبح أيقونه معلقة في قلوب كثير من الناس مع هذه المبهمات كان الصمت يخيم على البيت، والعائلة، ولكنه في العالم الميتافيزيقي كان القدر مشغولاً في صناعة مجدها.

كان منزل عائلة وديع حداد الذي عاشت فيه فيروز متواضعاً جداً، جدرانه قداسة، وتحميه الملائكة، وتهب عليه رياح الطهارة، وتسطع عليه شمس المحبة، ويزينه أدب أفراده، ويزيده جمالاً تواضعهم، بيت مكون من غرفة واحدة، أرضيته مكونه من طبقة اسمنتية، تغطي بعض أجزاءه الحصر المصنوعة من قصب القمح الذهبي اللون في تلك الأيام كانت تمتاز البيوت بارتفاع سقفها، واتساع شبابيكها، وفي هذه الغرفة توجد طاولة يجتمع حولها أفراد العائلة مشكلين مسبحة المحبة، هذه لمحة بسيطة عن البيت الذي خطت فيه نهاد خطواتها الأولى.

ومن شباك هذه الغرفة رأت نهاد النور لأول مرة من هذا البيت انطلق النور الذي لا يخيفه الظلام، ولا يرعبه الليل، ولا يخجله الغروب، إنه نور صوت نهاد حداد، التي عرفت فيما بعد بفيروز صوت يقسم الماس، ويصهر الذهب، وتنحني له أجمل الكلمات. صوت مجبول بالعز والكرامة، ومكلل بالمجد، ويفوح منه عطر شموخ الأرز.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة