كانت السيدة علياء المنذر حاملا، تنتظر الوضع أثناء مغادرتها المفاجئة مع زوجها فهد الأطرش من مدينة ديمرجى فى الأناضول إلى أزمير بتركيا، خوفا من قدوم اليونانيين إلى المدينة التى يعمل ويعيش فيها، وكانت القوى الأوروبية تتغلغل فى أقاليم الإمبراطورية العثمانية، ومن أزمير ركبا زورقا إلى بيروت، وخلال ذلك بدأت علياء فى الوضع، واستمرت طيلة الليل، وفى 23 نوفمبر، مثل هذا اليوم، ولدت طفلتها فى البحر.
كانت المولودة مثل القمر، وحدث خلاف حول اسمها، ففى حين اقترح والدها أن يسميها «بحرية»، لأنها ولدت فى البحر، اعترضت أمها، ثم اتفقا على اسم «أمل»، حسبما يذكر فؤاد الأطرش للكاتب الصحفى فوميل لبيب فى كتابه «قصة أسمهان».
تختلف الروايات حول تاريخ مولد «أمل» التى ستصبح من أجمل الأصوات فى تاريخ الغناء العربى، وتتخذ اسم «أسمهان»، ففيما يذكر الكاتب الصحفى محمد التابعى فى كتابه «أسمهان تروى قصتها» أنها ولدت فى 25 نوفمبر 1912، يذكر الباحث الموسيقى فيكتور سحاب فى كتابه «السبعة الكبار فى الموسيقى العربية» أنها ولدت فى 24 نوفمبر 1917، وهو العام الذى ترجحه «شريفة زهور» فى كتابها «أسرار أسمهان»، ترجمة «عارف حديفة»، مؤكدة أن اليوم هو 23 نوفمبر، وتستبعد رواية بعض أقاربها بأنها ولدت فى 1918.
أنجبت «علياء» من فهد الأطرش خمسة أبناء هم، فؤاد، وداد، فريد، أنور، أمل، لكنها فجعت بموت وداد وأنور وهما صغيران، ومن بيروت عادت وأطفالها إلى جبل لبنان، ثم فرت منه باشتعال الثورة التى قادها سلطان الأطرش ضد الاحتلال الفرنسى، وقصدت مصر فى عام 1923.
ركبت «علياء» القطار مع أطفالها الثلاثة، فؤاد، فريد، أمل، وفى العريش واجههم موظف الهجرة، لأنها لا تحمل وثائق سفر، فطلبت الاتصال بالزعيم سعد زغلول، ويخبره أن علياء المنذر الأطرش قريبة سلطان باشا الأطرش، تناشده أن يكون كافلها، وأبرق الموظف إلى القاهرة، ورد سعد الذى كان خارج الوزارة وقتئذ، قائلا: «أرحب بك فى مصر يا سيدتى، ولسوف أساعدك على قدر الاستطاعة، أرجو أن تتفهى أن وضعى قد تغير، ولا يسعنى الآن أن أفعل ما أريد، ولكن هناك مقربين منى لم يزل لهم نفوذ، وأنا أرحب بك فى منزلى».
تابعت «علياء» وأطفالها السير إلى القاهرة، واستأجرت شقة فى حى باب البحر، وقبل انقضاء عام نفدت مدخراتها، فاختارت غسل الثياب، واشترت ماكينة خياطة، وألحقت فريد وأمل بمدرسة كاثوليكية فرنسية مستعيرة لهما كنية «كوسا»، واضطرت إلى طلب المساعدة من مدير المدرسة حتى تستوفى رسوم التعليم، وتروى «أسمهان» جانبا من معاناة أسرتها فى سنواتهم الأولى بالقاهرة لمحمد التابعى، الذى ارتبط بها بعلاقة حب وخطوبة لفترة، يذكر ما قالته له فى كتابه «أسمهان تروى قصتها»: «ذات يوم وقد خلت الدار من الطعام، أرسلتنى أمى إلى الدكتور عبدالرحمن شهبندر، أحد زعماء سوريا من اللاجئين إلى مصر وقد مات مقتولا فى دمشق، الذى كان يعرفنا ويعرف أسرتنا جيدا، لكى يقرضنا شيئا من المال، وقطعت الطريق إلى مسكنه- وكان الطريق طويلا جدا- على قدمى، ولما قابلته أبلغته برسالة أمى وشكوت له حالنا، فناولنى ريالا، عدت به إلى أمى، ولما رأته بكت وبكيت معها، كنت لا أزال صغيرة السن، ولكننى فهمت يومها أننا أصبحنا أو نوشك أن نصبح من المتسولين».
تتذكر بداية طريقها للفن، قائلة: «بدأت أمى تعمل فى خياطة ملابس السيدات، وكان ما تحصل عليه قليلا ولكنه كفانا شر الجوع، وذات يوم شاءت المصادفة أن تلتقى أمى فى دار صديقة سورية لها بالأستاذ دواد حسنى «وهو من الملحنين والمطربين القدماء وله أدوار مشهورة»، وسمعها وهى تغنى عند صديقتها وتنقر على الدف، فسألها لماذا لا تحاول استغلال موهبتها هذه؟».
تضيف: «تعرفت أمى فى الوقت نفسه تقريبا بالأستاذ سامى الشوا، عازف الكمان المشهور، وساعدها الاثنان، وبدأت أمى تغنى وتحيى حفلات خاصة عند بعض العائلات، واتسع رزقنا قليلا وأمكن لها أن تدخلنا- فريد وأنا- المدرسة لنتمم دراستنا، والمصادفة كذلك هى التى شاءت أن يسمعنا داود حسنى- وكان يزورنا فى بيتنا المتواضع- وأنا أدندن أغنية لأم كلثوم كانت ذائعة فى ذلك الوقت، وأقبل على رحمه الله يلاطفنى ويسألنى هل أريد أن أتعلم أصول الغناء، وقلت: نعم، وبدأ يعلمنى ويلقننى أصول فن الغناء».
تذكر «أسمهان»: «كانت أمى قد عبأت بعض أسطوانات بأغانيها، ولم يطل الأمر حتى توسط دواد حسنى عند نفس شركة الأسطوانات، التى رضيت أن تدفع لى بضعة جنيهات عن كل أغنية أسجلها فى أسطواناتها، وهو الذى اختار لى اسمى المستعار أسمهان، وهكذا بدأت حياتى، المطربة أسمهان، ولكن فقط فى الأسطوانات، وكنت لا أزال طالبة فى المدرسة حتى انقطعت عنها، وخطوة خطوة احترفت الغناء ووقفت على مسارح عماد الدين».