ذهب عباس باشا إلى سراى شبرا، ليقبل يد جده محمد على باشا والى مصر، فقال له الجد: «لعنت إبراهيم، لأنه حبسنى، ولذا قبض الله روحه فلا تتصرف نحوى مثله إذا كنت تريد ألا ألعنك أنت أيضا»، فطمأنه عباس وقال له وهو يقبل يده مرة أخرى: «أنت سيدنا، وستظل كذلك دائما»، حسبما يذكر «نوبار باشا» فى مذكراته.
كان «نوبار» سكرتيرا ومترجما لمحمد على، وفى نفس الوقت التحق بخدمة إبراهيم باشا سكرتيرا له، وبقى فى خدمة الوالى عباس باشا، ثم الوالى سعيد باشا، فالخديو إسماعيل، ثم الخديو توفيق، وأخيرا الخديو عباس حلمى الثانى، وتدرج معهم حتى أصبح ناظرا «وزيرا» ورئيسا للنظار «الوزراء»، ويذكر قصة ذهاب عباس إلى جده محمد على كمعاصر لها، وهى المقابلة التى جرت بعد وفاة إبراهيم فى حياة والده محمد على، يوم 10 نوفمبر 1848، وجرت قبل أن يتوجه «الحفيد» إلى القسطنطينية لمقابلة السلطان العثمانى لمنحه فرمان تولية الحكم، خلفا لإبراهيم «طبقا لفرمان 1841، والذى ينص على أن الحكم يولى إلى أكبر الذكور الأحياء من نسل الوالى من الأولاد والأحفاد، وطبقا لذلك فإن المنصب كان يؤول فى حالة وفاة إبراهيم إلى عباس بن طوسون، باعتباره الأكبر بين أولاد وأحفاد محمد على.
يذكر «نوبار» أن سوء الحالة الصحية لمحمد على أدى إلى عقد اجتماع خاص لمجلس الوالى لتعيين من يتولى إدارة البلاد، فقرر إسناد المهمة إلى إبراهيم باسم والده فى إبريل 1848، وأصدر السلطان العثمانى فرمانا بذلك، ووفقا للدكتور زين العابدين شمس الدين نجم فى كتابه «مصر فى عهدىّ عباس وسعيد»، فإنه بوفاة إبراهيم قبل أبيه تولى عباس الحكم يوم 24 نوفمبر، مثل هذا اليوم، عام 1848.
يكشف «نوبار» ردود الفعل على تولى عباس الحكم، قائلا: «تضاربت الآراء حوله فى مصر، كان الأوروبيون يعتبرونه رجلا متعصبا ورجعيا، أما فى أوساط الموظفين فكان بالنسبة لهم شخصا لا يجيد فن التعامل مع الأزمات، وشبهوه بشخص لا يعرف كيف يتراجع فى الوقت المناسب عن ارتكاب الجريمة».
ويؤكد «نوبار»، أن الموظفين كانوا يعرفون أن عباس ينهمك جدا فى الأمور الإدارية، لكنه كان يحب العزلة ولا يشعر بالسرور إلا فى محيط أسرته، ويستطرد: «كان معروفا بين الكبار بأنه كسول كما وصفه أمامى جده، ولذلك كانوا يجدون صعوبة فى التأقلم مع فكرة أنه أصبح سيدا عليهم بعد أن عرفوه طفلا ثم مراهقا، وكثيرا ما كان يتلقى منهم الأوامر الصادرة من جده وتوبيخه له فى أحيان كثيرة فكان يلجأ إلى مكاتبهم».
شغل عباس الحكم وعمره 35 عاما، فهو من مواليد القاهرة عام 1813 أثناء غياب والده «أحمد طوسون باشا» فى شبه الجزيرة العربية قائدا للجيش الذى يحارب الوهابيين، وتوفى فيها عام 1816 أى بعد ولادة ابنه بثلاث سنوات، فعنى الجد بتربيته.
يذكر «شمس الدين نجم»: «حبا محمد على حفيده عباس بعناية، وبذل فى تربيته الوقت والجهد لتنشئته تنشئة حسنة، وألحقه بمدرسة الخانكة ليكون متصفا بالعلم والمعرفة، ولكنه ما لبث أن خيب آمال جده فقد أعرض عن تلقى العلوم، خاصة اللغات الأجنبية، ورفض أسلوب التربية الأوروبية، ومن ثم استعاض محمد على عن تعليمه بإسناد المناصب الإدارية إليه وتولى إعداده لولاية مصر فى المستقبل باعتباره أكبر الأبناء الأسرة سنا، وأحقهم بولاية الحكم بعد عمه إبراهيم باشا».
يرى «نجم»، أن حكم عباس استند إلى عنصرين أساسيين هما الجمود والرهبة، وبدأه بمعزل عن الناس متهاونا فى شؤون الحكم، ويضيف: «ما زاد من عزلته أنه كان يرى المحيطين به إما قطعا من الذئاب الغريبة، وإما طائفة من الموظفين المتملقين الذين لاهم لهم إلا جمع الثروة، ولم يكتف بالاحتجاب عن الناس داخل سراى الخرنفش وسراى الحلمية بالقاهرة، بل بالغ فى مجافاتهم حيث بنى قصرا فخما فى الريدانية «العباسية»، وكانت منطقة صحراوية منقطعة عن العمران وبعيدة عن العاصمة، وبلغ عدد نوافذ هذا القصر 2000 نافذة، ولم يكد يفرغ من إنشائه حتى راح ينشئ قصرا ثانيا، واختار له بقعة موحشة على الطريق بين القاهرة والسويس وشيد بها قصرا عرف باسم «الدار البيضاء»، كما أنشأ قصرا آخر فى جهة العطف، وقصرا فى بنها اختار له موقعا بعيدا عن المدينة».
يؤكد «نجم»: «كان من أثر حبه للعزلة إكثاره من ركوب الخيل والهجن والتوغل بها فى جوف الصحراء، حتى قيل عنه أنه كان محبا لركوبها ومولعا باقتنائها إلى الحد الذى لم يعرف اقتصادا فى سبيل اقتنائه لها، وقام ببناء الإسطبلات لها، كما كان محبا لاقتناء الكلاب وكذلك العبيد، وقبل وفاته كان يملك 500 من العبيد».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة