أستكمل فى هذا المقال حديثى عن نماذج لتوظيف الشائعات فى الصراعات والحروب.. أرجو من القارئ العزيز مراجعة المقال السابق من هذه السلسلة.
.4. شاعر.. كاهن.. مجنون.. ساحر:
القارئ المتمعن فى السيرة النبوية الشريفة يقابل عددا لا بأس به من استخدامات الشائعة كسلاح.
من أبرز تلك التجارب ما كان من سادة قريش فى مواجهة دعوة الإسلام، فقد اجتمعوا فى دار الندوة - وهى بمثابة البرلمان القبلى لمكة - يتباحثون حول نوع الشائعة التى سيطلقونها على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، لينفروا العرب من دعوته.. تجادلوا حول اتهامه بممارسة الشعر وما يرتبط به فى معتقدهم من تلقى وحى الجن، أو الكهانة وما يحيط بها من غموض ورهبة، أو الجنون باعتباره عقابا من الألهة التى سفهها.. ثم استقروا على القول «هذا سحر يفرق بين المرء وأهله».. ويا لها من تهمة مخيفة فى مجتمع يقوم على العلاقات الاجتماعية والارتباط بالأسرة والعشيرة والقبيلة.
كانت استماتتهم فى صياغة ونشر تلك الشائعة بسبب اقتراب قيام سوق عكاظ، وهى لم تكن سوقا للتجارة المادية إنما كانت بمثابة ما يمكن وصفه بالمؤتمر الموسمى للعرب، ففيها تبرم العهود وتنشأ التحالفات وتعقد المصاهرات وتعلن قرارات القبائل من حمايات للموالين وطرد للخارجين عن النظام.. فكان سادات قريش يخشون أن ينجح الرسول فى التحالف مع بعض قبائل العرب فيدعمون دعوته ويعتنقونها.. فسعوا لتنفيرهم منه بنشر تلك الشائعة
.5. التمويه والضغط السياسى:
أدرك الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قوة سلاح الشائعات، وأجاد التعامل معه ببراعة.. بدا هذا فى تكتيكه الحربى بعد الهجرة إلى المدينة عندما تعامل مع حقيقة أن أعداءه - من سادات قريش وغيرهم من القبائل والعشائر - لهم عيون يتجسسون عليه، سواء من البدو المراقبين للطرق أو من بين فئة المنافقين أو حتى أعداءه من بعض يهود المدينة.. وكان تعامله مع ذلك السلاح شديد العبقرية، فكان إذا أراد الخروج لغزوة أشاع وجهة غير التى يقصدها على سبيل التمويه.. وعندما أراد التوجه لأداء العمرة فى العام السادس من الهجرة ومنعته قريش من دخول مكة، تعمد أن يظهر صادقا - خلال مفاوضاته مع الوسطاء بينه وقريش - أنه وأصحابه إنما جاءوا معتمرين مسالمين وأنهم - بعكس ما كانت قريش تشيع - يعظمون البيت الحرام وشعائر العمرة والحج.. مما أدى لخلق حالة من السخط العام على أعدائه أنهم قد ارتكبوا سابقة قبيحة بصد معتمرين عن البيت الحرام.. الأمر الذى مثل عامل ضغط على قريش لتعقد معه صلح الحديبية الشهير، والذى بموجبه صار من حقه أن يعتمر وأصحابه فى العام اللاحق، فضلا عما لهذا الصلح من أثر فى تبريد جبهة الحرب مع قريش مؤقتا لحين تعامله مع خطر احتشاد أعدائه من اليهود فى واحة خيبر استعدادا لمهاجمة المدينة، فبفضل ذلك الصلح استطاع أن يسبق تحرك جبهة يهود خيبر وأن يداهمهم ويهزمهم.
.6. خَذِّل عَنّا.. فإنما الحرب خدعة:
استخدم المسلمون سلاح الشائعات ببراعة قبل ذلك خلال غزوة الخندق المعروفة أيضا بغزوة الأحزاب، عندما قادت قريش تحالفا ضم قبائل العرب وعلى رأسها قبيلة غطفان القوية، وتخابروا مع قبيلة بنى قريظة اليهودية فى المدينة لتخون حلفها مع المسلمين وتضربهم من ظهورهم خلال المعركة.
أثناء الحصار المفروض على المدينة أسلم نعيم بن مسعود سيد غطفان، وتسلل إلى المدينة لملاقاة الرسول وعرض عليه أن ينحاز له، فقال له الرسول: «إنما أنت رجل واحد، فخَذّل عنا، إنما الحرب خدعة».
وضع نعيم بن مسعود - الذى أخفى إسلامه - خطة بارعة لضرب تحالف قريش والأحزاب مع بنى قريظة، فتسلل لحصون بنى قريظة وأشاع بينهم أن سادات قريش المنهكين من جمود الوضع القتالى وسوء الأحوال الجوية قرروا رفع الحصار وترك بنى قريظة يواجهون نتيجة خيانتهم المسلمين وحدهم.. ونصح بنى قريظة أن يطلبوا من قريش تسليمهم عددا من رجالها رهائن لضمان جدية استمرار الحصار.. فاقتنعت بنى قريظة بالاقتراح.
ثم توجه لزعماء قريش وأنذرهم أنه قد علم من مصادره أن بنى قريظة قد ندموا على خيانتهم وخشوا سوء العاقبة، فاتفقوا مع المسلمين أن يستدرجوا رجالا من قريش لحصنهم ثم يسلمونهم له ليقتلهم ليعفو عن الخيانة.. ونصح سادات قريش: «لئن طلبوا منكم رهائن فلا تدفعوا لهم رجلا واحدا!»
توجه القرشيون لبنى قريظة ليقفوا على حقيقة الخبر، واستعجلوهم لضرب المسلمين من ظهورهم، فأجابهم سادات بنى قريظة بطلب رهائن منهم، فتأكد القرشيون من صحة خبر نعيم بن مسعود.. وفضوا التحالف مع بنى قريظة وانصرفوا عن المدينة تاركينهم لمصيرهم.
وهكذا لعبت الشائعات دورها القوى فى تفكيك تحالف كان من شأنه تعريض الدولة الإسلامية الناشئة لخطر كبير.
.7. لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه:
من أخطر التحديات التى واجهها المجتمع الإسلامى الناشئ فئة المنافقين بقيادة عبدالله بن أُبَىّ بن سلول.
خطورة تلك الفئة أنها لم تجاهر بالعداء - كزعماء قريش والقبائل اليهودية الثلاث الكبرى بنى النضير وبنى القينقاع وبنى قريظة - بل ادعى المنافقون اعتناق الإسلام بينما هم يلعبون دور الطابور الخامس ضد الدولة الجديدة.. ومعروف أن عدو الداخل أشد خطرا من عدو الخارج.
ما زاد الوضع خطورة أن فريقا من الأنصار - مسلمو قبيلتى الأوس والخزرج - كانوا لا يزالوا يحترمون عبدالله بن أبى لدوره السابق فى تهدئة حروب القبيلتين قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين إلى المدينة، حتى أن القبيلتين كانتا قد اتفقتا على تنصيبه ملكا على يثرب آنذاك، فكانت الهجرة واعتناق الأنصار الإسلام هدما لطموحاته، ولذلك كان بعض الأنصار يشفقون عليه ويلتمسون - بحسن نية مفرطة - له العذر ويأملون فى أن يرجع يوما للحق وينزع الضغينة من صدره.
استخدم المنافقون سلاح الشائعات بشكل ممنهج لضرب المجتمع من الداخل، كتخذيلهم قطاعا من المسلمين أثناء التوجه لغزوة أحد والانسحاب بقطاع من الجيش قبل المعركة بحجة أن «لو علمنا أن القتال سيدور ما تركناكم».. وكانوا قبلها فى أعقاب غزوة بدر قد كذبوا أخبار انتصار المسلمين على قريش وأشاعوا فى المدينة - قبل رجوع جيش المسلمين من الغزوة - أن «محمدا وأصحابه قد هُزموا شر هزيمة»، ربما لإشاعة الفوضى وتشجيع المترددين على التمرد استغلالا لغياب الجيش عن المدينة.
بل وسعوا لنشر شائعة فى المدينة أن الرسول والمهاجرين إنما جاءوا المدينة بدهاء ليستولوا عليها بنعومة ويقصوا أهلها.. عندما استغل عبدالله بن أبى واقعة مشاجرة جرت بين مهاجر وأنصارى خلال إحدى الغزوات، فأشاع أن المهاجرين قد مارسوا ما نصفه بلغتنا الحالية «تمسكن حتى تمكن» وقال «هذا ما قلت لكم.. سَمِّن كلبك يأكلك! لئن رجعنا إلى يثرب ليخرجن الأعز منا الأذل».. وقد كادت شائعته أن تؤدى لاقتتال بين المهاجرين والأنصار لولا تدخل الرسول وأصحاب العقل والرأى.
وكان حديث الإفك من أخطر شائعات المنافقين، عندما قذفوا أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها بارتكاب الخطيئة مع الصحابى صفوان بن المعطل، ليلحقوا العار بالرسول ويهزوا هيبته بين العرب ويضربوا معنويات المسلمين.
طوال ذلك الوقت وأثناء كل تلك الأفعال الدنيئة من المنافقين كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينصح الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل عبدالله بن أبى بعد أن ثبتت خيانته أكثر من مرة، فكان الرسول يجيب بهدوء وحسن سياسة: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»، لإدراكه أن أمرا خطيرا كقتل ابن أبى من شأنه أن يفجر شائعة خطيرة بين العرب أن الرسول ما هو إلا كأى طالب مُلك آنذاك يستعين بأصحابه ثم يتخلص منهم، وهى شائعة ما كان أعداؤه ليترددوا فى إطلاقها لتنفير الناس منه.
صبر الرسول وتأنى ولم يخضع لاستفزازات المنافقين حتى فوجئ المسلمون بعبدالله - ابن عبدالله بن أبى - يعلن أنه قد فاض به من أفعال أبيه وأنه مستعد لقتله بنفسه.. وبمن كانوا يشفقون على ابن أبى يعلنون تخليهم عنه وغضبهم عليه.. هنا قال الرسول لعمر بن الخطاب: «إنى والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته».. فكان هذا درسا مها فى تجفيف منبع الشائعة قبل ولادتها.
وللحديث بقية فى المقال القادم من هذه السلسلة من المقالات إن شاء الله
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة