كان الصبر أول دروس المدرستين، إن كان في بداية الأمر، خوف من الاعتراض، ولكن أصبح طبعا أصيلا، دون خوف، تمر الأيام فأسال عن نهايتها، ولا أستعجل أمرًا مهما كان ضروريا، فمن الأوفق أن أترك الأشياء تمضي على ما ترغب وتريد، لأنها بالفعل هكذا، ولن أنال أنا إذا استعجلتها إلا القلق والتوتر، وأنا أحمل عبء الساعات الآتية التي لا تمضي، وأشعر بكل دقيقة تمر، كأنها جبل أحمله فوق ظهري، وأنا لا أتحمل، فكم أنا نحيفة للغاية، ضعيفة أتبلغ من الطعام ما يقيم الأود، يرسم الشقاء بأصابعه ملامح وجهي، ويعبث بجسدي وبروحي، ولا حيلة لي فيما يفعل بي، كنت أخرج كل يوم، لا أدري ما وجهتي، حتي يخبرني أبي أو أخي، يأوي بي إلى مكان ما ترتع الأغنام، واقف ورائها ديدبان، خشية أن تشرد أحدها، فأهش عليها بالعصا، فترتد على أدبارها.
ينطلق أخي بحثا وراء كلأ جديد، في مكان ما، يظل يمشي، يرتاح في الطريق قليلا، يشرب الشاي مع فلان، يتسامر مع آخر، وهو في طريقه للبحث عن جديد، فلا يعود إلا وهو يعرف أين سنمضي بالأغنام بعد ذلك، كان الغياب يمتد لساعات قليلة، في بعض الأيام، وقد يمتد إلى النهار كله في بعضها، وأنا ها هنا أقف وأراقب في بعضها، إذا كان الجو حار، يعود إلي في القيلولة، يمضي بي إلى مكان ظل، يشعل نارا، ليشرب كوبا من الشاي، يحدثني عن أشياء لا علم لي بها، ولكني أستمع جيدا لما يقول، ومع عدم ردي، لأني لا أدري، ماذا أقول؟ يرحل ويتركني إلى أي حقل، يجد فيه أحد يجلس ويتسامر معه، عن أحوال الدنيا وأخبار السياسة، وما يدور من أحوال الناس، وما يجب أن يكون، وما لا يجب، يتحدث أخي كثير، يحاول أن يكون أبي، يردد كلماته، ويستعير حركات يديه، وتقاطيع وجهه، حين يخوض في الموضوعات، التي يحب أبي أن يتحدث فيها، فمن شابه أباه ما ظلم، أو هكذا يفعل، ليكون رجلا كأبي، ولعله يفعل ذلك فيظهر بمظهر الرجل ليزوجه أبي، فهو في الثامنة عشرة، وله أصدقاء قد تزوجوا، وربما أصغر منه بعام، وقد تزوج وقد أعتدنا أن أخذ الأوامر منه، أو من أبي، وأنفذ ما يلقنني إياه، وعندما لا يجد من يذهب إليه، يلف رأسه بالشد، الذي يرتديه، ثم يغط في نوم عميق حتى العصر، ثم يذهب يكمل مسيرته اليومية، لا أدري هل كان كل هذه الأوقات يبحث، أم إنه يذهب لبعض شئونه الخاصة، ويتركني لم أكن أستطيع النوم، ولو هجم علي مخافة أن يسرق أحد شيء، كنت أحيانا أظل أسكع وأختطف بعض لحظات نعاس، تجعلني أفيق، أقوم وأغسل وجهي بالماء، ثم أخرج عروستي ونلعب سويا بجوار القطيع، وربما شاركتنا جلستنا عنزة صغيرة، نداعبها ونضحك سويا، حتى يتجدد نشاطنا جميعا، ونتغلب على ساعات الكسل والخمول.
كنت أكثر أخوتي طاعة، وأصبرهم، ولم أكن أشكو أبدا، فإذا تركني أبي وأمر بألا أتحرك من مكاني، جاءني بعد ساعات، وأنا على نفس الهيئة، التي يتركني عليها، وكان صمتي الغالب علي، يوحي لهم بأني عاقلة، فيما أفعل، ويعتمد علي، فقد كان بعض أخوتي يتحججن ويتمارضن، وربما وصل الأمر أن يختلسن بعض الوقت للعب، أو إعلان النفور والضيق، من هذا العمل، فكنت أحمل عنهم الكثير، وأحاول أن أعمل ما يكرهونه، ولا يتحملونه، ورغم ضيقي به أنا أيضا، ولكني سرعان ما أكيف نفسي عليه، وأحاول أن أحبه، حتى أخفف وطأة الضيق منه على نفسي، فكنت أخرج دائما مع أبي مكانهن، فأختي الأكبر على وش زواج كما يقولون، فلا ينبغي لها أن تخرج من البيت، إلا للضرورة، والأخريين يأنفان من العمل والكبت، الذي تحس به كل منهما، أما أنا فلم أكن آبه كما يظنون بي، لم يعلم أحد أني كنت أشدهم جبنا وخوفا، فلا أقوى على قول لا، كنت أخشى الضرب، وصوت أبي حين يعلو، كنت أتشتت أتمزق، أريد ألا أكون، حتى لا تطالني يد أبي، أو تقذفني بشيء، فأنا لا أحتمل كأخوتي، حين كان أبي يجلدهم بعصاه، تأكل من أجسادهم، وتترك أثرا لأسابيع، ثم تتولى كأنهن تعودن عليه، فلم يأبهن له، أما أنا، فكنت أجزع لمجرد سماع صوت أبي يصرخ في وجه أمي، التي بدورها لم تنطق، كان نصيبها الصمت، ورغم صمتها كانت تدفع ثمن أخطاء بناتها، إن أخطأن، فتلقى نصيب من العذاب والضرب والإهانة، كنت أراها بعد أن يخرج أبي في المساء، تبكي بصوت مخنوق، تداري لكن عينيها تفضح، ما يلم به قلبها المطعون من الجميع، كنت أود أن أحمل معها، ولكني لا أستطيع، أكتفي بأن أحفظها من أن تهان بسببي، أبتسم في وجهها، ربما تحمل عنها شيء، ثم أمضي إلى فراشي، وأتركها وأحزانها.....
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة