أى مراقب عادى يستخدم عقله، يعرف أن هذه الجولة من الحرب مختلفة عن جولات سابقة، وأنها تحمل الكثير من التحولات، وتتطلب قراءات أخرى، بعيدا عن كليشيهات أو أحكام مسبقة التجهيز، ومع هذا، فالمتابع على شبكات التواصل أو فى الصحف، يلهث وراء التحليلات ليبحث عما يرضيه، وليس عما يحدث بالفعل، وربما لا يجد الوقت لفهم ما يجرى، وبالتالى تبدو التحليلات أحيانا - أو بعضها - وكأن هدفها إرضاء فريق للحصول على الإعجاب بصرف النظر عن الواقع.
من هنا، فإن المتابع العادى، يشعر بحيرة، فى حالة ما أراد الحصول على إجابات فورية حول الرابح والخاسر فى الحرب التى توقفت فى لبنان، أو حتى فى تقييم المواجهة التى تدور فى الأساس على غزة طوال 14 شهرا تقريبا، من دون أفق للحرب، باستثناء بعض الأمل من وقف إطلاق النار فى لبنان، بينما لا تزال عملية تقييم ما جرى فى 7 أكتوبر 2023 تخضع لتنوع فى وجهات النظر قد يصل إلى حد الصدام.
فى ما يتعلق بلبنان، فهناك انقسام بين الأطراف اللبنانية، ومعروف أن «حزب الله» أعلن أنه يدخل الحرب مساندة لغزة، وهناك من بين اللبنانيين من يسأل: هل نجح حزب الله فى مساندة غزة؟ وهل ما تحقق من نتائج، يساوى حجم التضحية والدمار الذى لحق بالشعب اللبنانى؟ شاهدتُ مواجهة على قناة لبنانية طرح فيها أحد المؤيدين لـ«حزب الله» أن الحزب حقق انتصارا، والدليل هو مظاهرات خرجت من الجنوب ترفع أعلام الحزب، ورد عليه آخر منتقدا، وقال إن الحرب لم تحقق أى نتائج، وإن الحزب لم يساند غزة، ولم يمنع الدمار، بل إنه جلب الدمار إلى لبنان، ورد الطرف الآخر، فقال إن إسرائيل لم تكن تقبل الهدنة ما لم تعانِ من صواريخ ومسيرات المقاومة، ورد المختلف بأن لبنان لم يكن طرفا فى الحرب من الأصل، وأنه لم يكن يخوض الحرب لمصلحة غزة، وإنما لصالح إيران التى تخلت عنه وتركته يواجه الاحتلال وحده، وإن الحزب خسر الكثير من المعدات والقوة بجانب قيادات الصف الأول والثانى والثالث، وإن الاحتلال أسقط الحواجز ودخل فى حرب مباشرة مع إيران، وإن طهران أعلنت عدم الرغبة فى حرب شاملة، وأعلنت أنها ترى حزب الله قضية لبنانية، ولعل هذا هو ما يدفع الحزب لقبول الاتفاق، بالرغم من أنه يتضمن تطبيق القرار 1701، والذى يعنى تحرك الحزب، ونزع السلاح ووجود الجيش اللبنانى، وإن هذا يعتبر فوزا لنتنياهو، حتى لو كانت بعض الصواريخ هددت شمال إسرائيل.
لكن الانقسام حول تقييم الاتفاق الخاص بلبنان انتقل إلى إسرائيل، حيث قالت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، فى افتتاحيتها، مقللة من أهمية الاتفاق، وزاعمة أنه تكرار لاتفاقات سابقة لم تضمن أمان سكان الشمال: «بالنسبة لسكان الشمال هذا الاتفاق يبدو مألوفا، وسبقت لهم رؤية اتفاقات من هذا النوع، لكنهم رأوا (حزب الله) يزداد قوة، وأن التحدى هو إثبات أن هذا الاتفاق ليس مجرد وعد فارغ»، بينما نقلت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، أن 60 ألفا من سكان الجنوب منقسمون حول الاتفاق، وأن من بينهم من يرفض الاتفاق، ويؤكد الاستعداد لتحمل التهجير والنقل مقابل تحقيق نتائج جادة، بالقوة.
هنا يبدو أن هناك اتفاقا بين أطراف من كل المعسكرين، وهناك من يرى الاتفاق ضد مصالح حزب الله، ومن يرى أنه ضد مصالح الاحتلال، وفى المقابل فإن نتنياهو يرى أن وجود الولايات المتحدة فى الصورة - ومعها فرنسا - يضمن التنفيذ، ويشير إلى أن الحرب نجحت فى انتزاع الكثير من قوة حزب الله، بينما ما لا يقال، هو أن الاتفاق فى خلفيته إبعاد لإيران، وأن الاتفاق يتضمن تبادل معلومات استخبارية حول التسلح وغيره، وأنه وقف الدعم المادى والعسكرى، يعنى أن الحزب سوف يتقلص ويفقد قدراته، بجانب وجود اتجاهات أخرى داخل لبنان تريد إبعاد اللبنانيين عن الحرب. وبعد إخراج إيران من المعادلة تحدثت صحيفة «لوريان لو جور» اللبنانية التى تصدر بالفرنسية، وقالت إن على «حزب الله» إثبات أنه لبنانى أكثر من كونه فارسيا، إنه مدين لنا جميعا، وليس فقط للطائفة الشيعية، التى تأثرت بشكل خاص برهاناته الخاطئة.
وفى الولايات المتحدة، ترى التحليلات أن الاتفاق فى لبنان هو انتصار أخير للرئيس بايدن قبل 55 يوما من مغادرة البيت الأبيض، وتساءلت عما إذا كان يمكن أن ينجح فى وقف الحرب فى غزة، والتى بلغت حدا من الإجرام تجاوز الإبادة إلى القتل الممنهج لأكثر من 45 ألف فلسطينى، مع دمار شامل لكل المبانى وتحويل غزة إلى مكان يصعب العيش فيه.
وإلى غزة، واستمرار عمليات التقييم، وحساب الربح والخسارة، فإن الحرب لا تزال قائمة، وخسائر الاحتلال فى لبنان بالرغم من قصر الفترة، أضعاف ما واجهه فى غزة، بجانب أن التغييرات فى الرئاسة الأمريكية، من جو بايدن إلى دونالد ترامب مع استمرار الانحياز والدعم، تضاف إلى تأثير التحولات فى مستقبل القضية، وغموض التوقعات، ومصير السلام والحرب.
مقال أكرم القصاص
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة