(شطحات منسية) مجموعة للدكتور أحمد جمال الدين موسى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وجمعت بين نصوص كتبت حديثا وأخرى كتبت قبل عقود طويلة ولم تنشر من قبل.
تنهض نصوص المجموعة على الحركة بين عوالم متنوعة وتناولات مختلفة.
من بين هذه العوالم عالم الريف أو القرية الذي يتناوله عدد من القصص خلال منظور يهتم بمشكلات بعضها يلوح عابرا للفترات. في قصة "الكاتب" إشارات إلى: "مشكلة الريف المزمنة ومرضه الخطير: الفقر والجهل"، وإلى أهمية "الجهود التي تبذل من أجل رفعة شأن الريف المصري والارتفاع بمستوى قاطنيه". وفي قصة "مطاردًا حتى الموت"، وهي من أجمل قصص المجموعة، استعادة لعالم القرية عبر موازاة شخصية المشرف الزراعي، المشغول بالفن المسرحي والسينمائي. وفي قصة "رحلة إلى الأعماق بحثًا عن أصل حكاية جعفر بن السائح"، وهي قصة جميلة أيضا، اهتمام بتفاصيل عالم القرية من منظورات عدة.
وفي مجال يرتبط بعالم المدينة، ومنه قصة "مدينة نصر – شبرا"، إحالات واضحة إلى عالم القاهرة، ابتداء من العنوان، ومشاهد تصور التفاوت الاجتماعي والتناقض بين أماكن راقية بالمدينة وأخرى ليست كذلك، والجمال الموزع بتفاوت فيما هذه الأماكن وتلك. كذلك يتصل بعض هذه الإحالات بأزمنة وفترات مرجعية محددة بعينها، ومعالم لهذه الأزمنة أو الفترات.
ويهتم بعض نصوص المجموعة بعالم أو بمجال "الحرب". في قصة عنوانها "الموت في غير زمانه الحقيقي" مشاهد تفصيلية من الحرب، ووقفة عند بعض وقائعها والمشاركين فيها، ومن بينهم شخصية محورية هي صف الضابط "شلبي" الذي يقول لقائده بعد أن أفاق من غيابه عن الوعي: "اطمئن سيادتك (...)، مهما حَصل ليَّ مش هاموت، دا عيلة الحوالج ضربوا عليَّ نار أكثر من سبع مرات، ومات ليَّ أخين كانوا مرة ماشيين معايا، وفضلت أنا عايش..."، وتستتبع هذه الوقفة مفارقة واضحة، إذ تنتهي الحرب، وبعد فترة يموت في حادث سير. في مجال الحرب أيضا نص آخر، هو "موتنا في ذكراه الثانية"، يتأسس على حوار بين روحين تهيمان في واحدة من مقابر الشهداء، وفي الحوار تستعاد تفاصيل الاقتتال والاستشهاد والأسلحة ورفاق الحرب والعدو، ولحظات الحياة ما قبل الشهادة والرحيل إلى "العيش في حياة سرمدية" بحسب العبارة الأخيرة في النص المشبع بالخيال. وفي مجال الحرب كذلك قصة "أحمق في يومه الأخير" حيث الإشارات إلى حرب 1973، ثم الغلاء، المرض النفسي، هموم وتطلعات عالم الانفتاح الجديد...الخ، وقصة "مطاردًا حتى الموت" التي تستعيد، مع عالمها القروي، حرب 1967 وترتبط وقائعها بمحاولة تجسيد بعض مشاهد هذه الحرب في الفيلم السينمائي الذي ينجزه "سلامه الطاهر"، الشخصية المحورية بالقصة، بإمكانيات بسيطة (يبيع قراريط الأرض التي ورثها لينفق عليه).
ثم هناك مجال يمضي في وجهة الفانتازيا. في قصة "وردة آدمية" رجلان وامرأتان اختاروا العيش في بيت منعزل مطل على الريف، ليشيدوا حياة جديدة أقرب إلى "اليوتوبيا"، قوامها البساطة والفطرة والجمال، بعيدا عن صخب العالم وشروره. ولكن هذه الحياة تنقلب فجأة إلى نقيضها، "الديستوبيا"، حيث يلاحقهم ما يشبه الكابوس: جثة في سيارة نقل موتى تتضخم ويتزايد حجمها.. حديقة البيت تغدو محتلة بالغرباء، والحالمون الأربعة يصبحون مطاردين.. . والقصة تنطوي على تأمل في ردود أفعال المجتمع، وضغوطه، في مواجهة أي محاولة للتحرر والخروج على المألوف.
أيضًا من المجالات المتعددة في نصوص هذه المجموعة تناول مختلف للعلاقة بين الشرق والغرب التي لها حضور لافت في عدد كبير جدا من الأعمال الأدبية خلال ميراث طويل. في قصة "إسماعيل والهروب من ألم الوحدة القارس" وقوف عند بعض تجارب الوافدين العرب إلى الغرب، ومدى انخراطهم في الحياة الجديدة أو انفصالهم عنها. في مدينة فرنسية صناعية قديمة، يحيا "إسماعيل المصري"، أو يحاول أن يحيا، مثل "عمدة مصري حقيقيً" في وسط فرنسي.
ثم هناك مجال خاص، في بعض نصوص المجموعة، يتمثل في شكل من أشكال "الحواريات"، ومنها نص "الأبدية المفقودة"، وهو حوار مطول بين فتى وفتاة، تتوارى عن سياقه معالم الزمن والمكان، وتطرح فيه قضايا وتساؤلات حول الأمل، والحب، والعبث، والعدم، والوجود، والعقل وغياب العقل، والموت، والواقع والحلم، والأبدية والخلود، ويهيمن على الحوار كله طابع فلسفي لا يخلو من مسحة "وجودية". وفي المجال ذاته نص "حكمة فاوستيه"، وقوامه حوار بين "فاوست" جديد وتلميذ جديد يطلب منه أن "يعلمه الحكمة"، وتثار في النص أسئلة حول المعرفة، وتجربة الحياة وإمكانات اكتسابها، بخوضها أم بنقلها من شخص لآخر.. والنص يحتفي بنوع من الخلاصات والاستخلاصات، يأتي بعضها بصوت جمعي: "نحن دائمًا لا نُدرك أننا لم نصل إلى شيء، وإلا يكون الموتُ قد أصبح على بُعدِ خطوات مِنا"..
مع هذا التنوع في المجالات التي تتحرك فيها وخلالها نصوص هذه المجموعة، هناك اهتمام بعدد من القضايا، بعضها يرتبط بفترة بعينها، وبعضها يلوح عابرا للفترات. من هذه القضايا ما يتصل بعزلة المثقفين (في قصة "مطاردًا حتى الموت". يقول سلامه: "لنحاول أن نَخرج من قواقعِنا وجحورنا يا أستاذ يا مثقف.. نحن تمامًا كالجرذان نقرض أوراقًا وكُتبًا، بينما نعيش في جحور عَفِنةٍ").. ومن هذه القضايا ما يتمثل في ازدواجية تسم بعض الأشخاص، حيث المسافة صارخة بين ما يجهرون به من مبادئ وما يمارسونه من سلوك. كذلك يتوقف بعض النصوص عند ظواهر اجتماعية عدة: الهجرة للعمل في الخارج، الضغوط المولدة لمعاناة أمراض نفسية متنوعة، الانصياع لمظاهر جماعية من بينها فرض شروطً تعجيزية للزواج.. إلخ
يقترن تنوع عوالم نصوص المجموعة، ومجالاتها وقضاياها، بتنوع التقنيات الفنية فيها. وفي هذه الوجهة يمكن ملاحظة أشكال متباينة للكتابة بين نص وآخر، كما يمكن ملاحظة نزوع بعض النصوص إلي "تجريب" واضح، ومن ذلك قصة "رحلة إلى الأعماق"، التي تتأسس على مغامرة تقنية: كتابة قصة بأكثر من صوت، فالراوي الأول يترك لكل جانب من جانبي شخصيته المنفصمة أن "يحكي القصة" بطريقته.. فلا يتدخل في حكايةِ أي منهما، "إلا لتصحيح خطأ، أو شرح ما جاء غامضًا، أو لتكذيب ما أراه مدسوسًا"، وقد وضع النص المطبوع تدخلاته هذه بين أقواس وببنط مختلف ومائل. ومثل هذه التقنية تنتمي إلى نزوع روائي أكثر بشكل واضح.
يحيل عنوان "شطحات منسية"، بطرفيه، إلى مساحة تتحرك فيما بين الخيال والحرية (ولنلاحظ مفردة "شطحات") من جهة، وإلى فعل منظّم، متصل بالذاكرة، يجمع نصوصا قديمة إلى نصوص جديدة (ولنلاحظ مفردة "منسية") من جهة أخرى.. ولعل استعادة تجارب قديمة في زمن جديد يمكن أن يشي بنوع من الحنين، ولكنه ينطوي في الوقت نفسه على شيئ من المغامرة.. وقد أشارت مقدمة المجموعة، المكتوبة حديثا، إلى هذا المعنى؛ فبعض النصوص (القديمة) كان يمثل نوعا من "المغامرة في حينها"، أي في زمن كتابتها.. ونشرها اليوم، أي في زمن صدورها، يعدّ "مغامرة جديدة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة