كان العدوان الثلاثى ضد مصر يتواصل، وكان الرئيس السورى، شكرى القوتلى، عائدا إلى دمشق بعد زيارة موسكو، واجتماعه بالقادة السوفيت، خروشوف وبولجانين ومارشال زوكوف، وحثهم على تقديم العون المادى لمصر، والتدخل إذا استدعى الأمر لوقف العدوان الذى تشنه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر منذ 29 أكتوبر 1956، حسبما يذكر محمود رياض سفير مصر فى دمشق وقتئذ، ووزير الخارجية وأمين عام جامعة الدول العربية فيما بعد.
ذهب «رياض » للقاء القوتلى فى 3 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1956، لمعرفة تفاصيل ما جرى فى موسكو، حسبما يذكر «رياض» فى الجزء الثانى من مذكراته «الأمن القومى العربى بين الإنجاز والفشل»، وأكد «القوتلى» أن القادة السوفيت أبلغوه بأن الاتحاد السوفيتى سيقدم أقصى معونة ممكنة لمصر بما فى ذلك الأسلحة والفنيين، لكنهم غير مستعدين لإرسال قوات عسكرية خوفا من أن يؤدى ذلك إلى قيام حرب عالمية.
أبرق «رياض» لـ«عبدالناصر» رسالة «القوتلى»، ويؤكد «رياض»: «احتفظ عبدالناصر بما فى الرسالة سرا حتى يبقى عالقا فى الأذهان استعداد الاتحاد السوفيتى للتدخل العسكرى، خاصة بعد أن صدر الإنذار السوفيتى فى منتصف ليلة 5 نوفمبر على شكل رسالة من «بولجانين» إلى «إيدن» رئيس الوزراء البريطانى، وموليه رئيس الحكومة الفرنسية، يتضمن إمكانية استخدام الصواريخ، كما وجه رسالة عنيفة إلى بن جوريون، رئيس حكومة إسرائيل، بأن اشتراك إسرائيل فى العدوان يهدد وجودها كدولة، وفى 11 نوفمبر صدر فى موسكو إعلان بالاستعداد لإرسال متطوعين لإنهاء الاحتلال»، يعلق «رياض»: «يلاحظ أن تأييد الاتحاد السوفيتى كان يتصاعد كلما تبين لهم تصميم مصر على المقاومة، والتأييد الجاد من الدول العربية».
كان تأييد مصر فى سوريا يأخذ أشكاله المختلفة من بينها تحركات سرية لضباط بالجيش السورى، يذكرها «رياض» قائلا: أثناء سفر «القوتلى» لموسكو زاره مجموعة من قيادات الجيش، من بينهم عبدالحميد سراج، رئيس شعبة المخابرات الذى قال: إنهم يستطيعون تدمير محطات ضخ البترول فى الأنابيب التى تنقله من العراق إلى البحر المتوسط عبر سوريا، وكان أحد المصادر الرئيسية لتموين بريطانيا، ويقول «رياض»: «رحبت على أساس أن العملية من أعمال المقاومة الشعبية، لاستبعاد أى مسؤولية عن الحكومة السورية».
تحول كلام «السراج» إلى واقع عملى، ويكشف محمد حسنين هيكل تفاصيله فى كتابه «الطريق إلى السويس»، قائلا: أثناء سفر «القوتلى» ذهب قادة الجيش السورى إلى رئيس الجمهورية بالنيابة «ناظم القدسى»، يسألونه عما يجب فعله لمساعدة مصر، وكان «القدسى» يقيم فى فندق أوريان بالاس بدمشق، وقابل قادة الجيش مرتديا «الروب دى شامبر»، وحين سمع منهم أجاب بتأجيل أى قرار 48 ساعة، وكان «السراج» أكثر المطالبين.
خرج «السراج» مكتئبا، حسب تأكيد «هيكل»، وعاد إلى مكتبه ليجد إشارة بظهور قطع بحرية أمام مينائى اللاذقية وبانياس أى فى نهاية أحد خطوط أنابيب نقل البترول، وهكذا طرح «خط الأنابيب» نفسه على فكره، فدعا ضابط صديقه من لواء البادية، وطلب إليه الذهاب فورا لإيقاف عمل أجهزة اللاسلكى فى محطات الضخ، بحجة أنها قد تعطى إشارة إلى القطع البحرية التى ظهرت أمام الموانئ السورية، خشية أن يكون هناك ترتيب لإنزال على الشاطئ السورى، ونفذ الضابط المهمة.
توجه «السراج» إلى صبرى العسلى، رئيس الوزراء، بعد استدعائه، وكان وزير الأشغال مجد الدين الجابرى موجودا، وحسب «هيكل»، فإن «السراج» وقبل أن يجلس بادره «العسلى» بالقول: إن السفير الأمريكى كان موجودا عنده، وأنهم قلقون من توقف ضخ البترول نتيجة توقف محطات اللاسلكى، وأنه لو شعر الإنجليز بأن شيئا حدث للخط سيقومون بعملية إنزال على المحطات وعلى الخطوط، وتساءل «العسلى»: هل نقدر نحن على الإنجليز؟ هل نقدر نحن على الأمريكان؟ رد «السراج» بأنه أمر فعلا بتوقف محطات اللاسلكى لفترة مؤقتة بعد ظهور قطع بحرية، ويبحث عن موظفين سوريين يجيدون اللغة الإنجليزية ليجلسوا بجوار عمال الإشارة فى المحطات، ليتأكدوا من طبيعة الإشارات التى قد ترسلها هذه القطع التى تظهر أمام الموانئ، فتدخل وزير الأشغال قائلا: إنه يستطيع توفير عدد من موظفى البريد والرى يجيدون اللغة الإنجليزية، وأبدى «السراج» ترحيبه مشترطا أن يكونوا ممن يثق فيهم الجيش.
عاد «السراج» إلى مكتبه، وفكره مشغولا بتصرف جذرى ونهائى، وطبقا لـ«هيكل»، فإن تفكيره ذهب إلى عملية نسف، تؤدى لعطل كبير لا تكفى لإصلاحه ساعات ولا أيام ولا أسابيع، فاستدعى صديقه الضابط مهندس المقدم هيثم الأيوبى، وطرح عليه الفكرة فرحب بها، لكنه قال: إنها تحتاج ثلاثة أطنان ديناميت ووسائل نقل وحراسة لتأمين المهمة، فدبرها السراج من مخازن الجيش عبر صديق له، وأمكن ترتيب ثلاث سيارات وقوة حراسة صغيرة، وقاد «الأيوبى» القافلة كلها، وتوقفت بحذر على طريق محطات الضخ، وآخرها فى دير الزور على بعد سبعمائة وخمسين كيلو مترا من دمشق، وفى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، يوم 3 نوفمبر، تم نسف المحطة الأولى فى تدمر، وفى الرابعة صباحا تم نسف الثانية، وفى السابعة صباحا تحولت المحطة الثالثة فى دير الزور إلى حطام وأنقاض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة