كانت أعين جواسيس الخديو توفيق ورئيس النظار رياض باشا ترصد تحركات الوطنيين فى كل مكان، فاختاروا «حلوان» البعيدة عن القاهرة مكانا لاجتماعهم، ليأسسوا أول حزب سياسى عصرى بمصر فى 4 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1879، وفقا للكاتب المؤرخ المفكر محمد عودة فى كتابه «ليبراليون وشموليون وقصة الديمقراطية والحزبية فى مصر».
يذكر «عودة»، أنه هذه «كانت أول تجربة من نوعها فى الشرق كله»، وكان على رأس المؤسسين «محمد شريف باشا» ذو المكانة الرفيعة والشهرة الواسعة والملقب باسم «أبو الوطنية والدستور»، و«راغب باشا» أكفأ وزير مالية وصاحب المشروع الوطنى لسداد الديون، وشاهين باشا وزير الجهادية والبحرية السابق، وواضع استراتيجية الدفاع ضد التدخل، يضيف «عودة»: اكتمل الاجتماع بحضور محمد سلطان باشا «أبو سلطان ملك الصعيد»، كما كان يسمى لشعبيته فى الريف ودواوير الصعيد، وكان اجتماع حلوان ذروة لاجتماعات طويلة تمت معظمها بين كل من يعنيهم مصير البلاد، بعدما تولى خديوى جديد «توفيق» نقض كل العهود وتنكر لكل مشاريع الإصلاح، واختار رئيس وزراء «رياض باشا» كان أشهر الساسة رجعية وولاء للأجانب.
يؤكد «عودة»: «انتهى الاجتماع فى حلوان إلى ضرورة تكوين حزب سياسى على نسق الأحزاب الأوروبية، يرسم السياسات ويضع الخطط والمشاريع ويوقظ الأمة ويقود المواجهة ومعركة المصير، وتقرر أن يعرف الناس بقيام الحزب فى منشور يطبع سريا باللغتين العربية والفرنسية، ويوزع على أوسع نطاق بين المصريين والأجانب، وفى الداخل والخارج، وتم طبع المنشور وشاع بين كل الطبقات والفئات وفوجئت الحكومة وفزعت ولكن لم تستطع أن تفعل شيئا».
يذكر عبدالرحمن الرافعى، فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»: «اشتد ساعد الحركة بتأليف جمعية من الناقمين من سياسة رياض باشا، عرفوا بالحزب الوطنى، ونشروا فى 4 نوفمبر 1879 أول بيان سياسى لهم، وطبعوا منه عشرين ألف نسخة، وسعى رياض فى معرفة ناشريه لإقصائهم إلى السودان فلم يستطع إلى ذلك سبيلا».
كان تاجر الأقطان السويسرى «جون نينيه» من الذين عاصروا هذا الحدث وحوادث الثورة العربية كلها، وكان صديقا لأحمد عرابى وثائرا معه، وألف كتابا بعنوان «عرابى باشا»، وينقل «الرافعى» عنه قوله: «إن إخفاق رياض باشا فى تعقب ناشرى هذا البيان شجع خصومه على متابعة العمل لإسقاطه ومنهم الخديو توفيق ذاته، ومن بينهم الباشوات الأربعة، شريف باشا، وإسماعيل راغب باشا، وعمر باشا لطفى، وسلطان باشا، وأنهم أوفدوا إلى باريس أديب إسحق لإنشاء جريدة القاهرة، ورحل فعلا إلى أوروبا بعد إلغاء جريدتيه «مصر» و«التجارة»، وأصدر فى باريس جريدة معارضة لوزارة رياض باشا، وتعقبها رياض لمنع تداولها فى مصر، ولكن الباشوات الأربعة كانوا يوزعونها فى أنحاء البلاد».
يذكر «الرافعى»، أن الاجتماعات السرية تعددت فى منزل سلطان باشا لتنظيم الحزب الوطنى، وقويت الروابط بين منظميه، وكان فى مقدمتهم سلطان باشا وأحمد عرابى بك وصاحباه عبدالعال حلمى وعلى فهمى، ومحمود سامى باشا البارودى، وسليمان باشا أباظة «مدير الشرقية»، وحسن باشا الشريعى «مدير المنيا» ومحمود باشا فهمى، ويقول «نينيه»: «أن الغرض من ضم المديرين إلى الحزب هو نشر الدعاية له فى الأقاليم، وأن سلطان باشا بوجاهته وثرائه إذ كان يمتلك نحو ثلاثة عشر ألف فدان من أجود الأطيان كان يطمع فى رياسة الحزب رغم ضعف أخلاقه ودخيلة نفسه، ولم يكن يتطلع إلى الوزارة لأنه لم يكن كفؤا لها، بل كان يرنو إلى رئاسة مجلس النواب».
يكشف «عرابى» فى مذكراته، أن الحزب الوطنى تألف من لفيف من العظماء والكبراء والعلماء والنبهاء، بسبب التذمر من تغلغل النفوذ الأوروبى فى الحكومة، ونشروا عدة منشورات فى الصحف الفرنسية نصحوا فيها الحكومة بمراعاة مصالح البلاد، وأعلنوا عن وجود الحزب، وبينوا واجباته وحقوقه، ثم اعترضوا على الدين الممتاز وطالبوا بأن تعاد إلى الحكومة المصرية جميع الأملاك المسماة بالخديوية، ويلغى النص القاضى بتخصيص السكة الحديدية للقرض الممتاز، وأن تكون الديون الممتازة والسائرة والمنتظمة دينا واحدا مضمونا بمال الأمة والبلاد بفائدة مقدارها 4 % فى المائة، وأن تقام إدارة مراقبة وطنية خاصة مؤقتة يكون فيها ثلاثة من الأجانب تعينهم الدول وتقرهم الحكومة المصرية.
يؤكد «الرافعى»، أن الحكومة اضطهدت وشددت الرقابة على زعماء هذا الحزب، ويضيف: «احتمى الفريق شاهين باشا كنج (وزير الحربية السابق) بالحماية الإيطالية، وغادر مصر إلى إيطاليا، فصدر أمر الخديو فى 14 يونيو 1880 بتجريده من رتبه وألقابه ومحو اسمه من دفاتر ضباط الجيش، وبنى الأمر على أنه دخل فى حماية دولة أجنبية دون أن يعطى له إذن بذلك، وأنه سافر من مصر مستعينا بجواز سفر حصل عليه من حكومة أجنبية دون أن تعترف به الحكومة المصرية».