أُطلِق سراحه من السجن منذ ستّة أيامٍ بالتمام والكمال بعد عشر سنوات من أصل أربعة عشر عاما نتيجة لحسن سلوكه... ستة أيام كانت كفيلة بأن يفقد كل ما تبقى من صوابه ...
عرّج على المطبخ على أطراف أصابعه لأخذ قارورة من المياه دون إحداث جلبة ليجد والدته مازالت غارقة في طبخ كل ما لذ وطاب من أجله...
أصبح يكره مواعيد الوجبات ويفعل كل ما بوسعه ليتجنب الجلوس مع عائلته... كل العيون متجهة نحوه، تتفحصه كأنه كائن ينتمي لمكان وزمان مختلفين...
والدته لا تكف عن البكاء كلما تراه ... تلتصق به كلما سنحت لها الفرصة، تملأ طبقه من دون أن يطلب ذلك، تغضب عندما لا يستطيع تناول كل ما تطبخه، وتعاود البكاء مرة أخرى ...
على الرغم من إحساسه بالانتهاك فهو يشعر بالشفقة نحوها، كانت تزوره كل خميس لمدة عشر سنوات...لم تغب إلا خميسا واحدا ذات شتاء لئيم... علم بعدها أن والده قد توفي فجأة...
إخوته يتجاهلونه ولا يخفون امتعاضهم من التغيير الذي طرأ بشكل مفاجئ على حياتهم منذ عودته بدءًا من الاستقبال المستمر للضيوف الذين يأتون لرؤيته بدافع الفضول كأنه قرد في سيرك وصولا إلى تغيّر روتين النوم وتقاسم الغرف ...
ما هذه الفوضى!
لماذا لا يحس بالتحرر؟ لماذا يشتاق إلى حياته القديمة في السجن!
لا يجرأ على الاعتراف بهذا الجنون...نعم ...فهذا جنون!
ولكن ... لكن الحياة داخل السجن واضحة مثل وضوح الأبيض والأسود....
منضبطة إلى حد كبير، فكل شىء له وقت مخصص ....
الخيارات محدودة في اللباس والاكل والكتب فأنت لا تشعر بالتشويش أو التردد...
لا أحد يتظاهر بالفضيلة ولا أحد يهتم بخطيئتك التي تحملها فوق ضهرك كأحد أبطال رواية الحرف القرمزي، فالكلّ مذنب بطريقته ..الكل بلا استثناء...
أنت وحيد داخل السجن لأنك فعلا كذلك وليس لأنك تحس بالوحدة... سلامتك هي مسؤوليتك وحدك ولن يصادقك أحدهم إلا إذا أراد فعلا ذلك فلا أحد مجبر على تحمل أوهامك...
كل شئ في ذلك المكان واقعي ..لن تقع في الشك مطلقا ...
أما الآن فهو لا يحضى بأية لحظة بمفرده ، أصبح ملكية عامة أو قردا في السيرك...
هاهو يُرمَى به وسط كل هذه الفوضى في عالم نسي كيف يتعامل معه منذ أن كان يبلغ ثمانية عشر ربيعا .... ها هو مشوش، غريب، ويغرق في الظلام وعليه أن يتعلم الكثيرمن جديد ...
جحظت عيناه عندما ارتطمت هذه الفكرة برأسه : أيعقل أن يكون قد دخل السجن منذ ستّة أيام؟