لطالما أراد الإنسان أن يفهم أسباب ما يصيبه من أحداث سيئة، وإن كان يُفتَرَض ممن نالوا - ولو الحد الأدنى من التعليم - أن يبحثوا فى أسباب ذلك بالتفكير المنطقى والعلمى، فإن كثيرا من الناس يُرجعون أحداثهم السيئة أو عدم توفيقهم فى هذا الأمر أو ذاك لأسباب خوارقية على رأسها «الشؤم»، فيغذون بذلك حيلهم الدفاعية النفسية لرفع المسؤولية عن عواتقهم بخلق ارتباط شرطى بين بعض الأشياء من ناحية، وتوقع الشر من ناحية أخرى..
ما يعنينى فى هذا الأمر هو تتبع الجذور التاريخية لأشهر ما يبعث على التشاؤم فى الثقافة العشبية المصرية، والتى يرجع معظمها -تلك الجذور إن لم يكن كلها - إلى عصور قديمة جدا، وبعضها وافد إلينا من الخارج، فلنستعرض أشهرها إذن..
1 - «دى ولية حِداية! دة راجل بومة!»
تقول الأسطورة المصرية القديمة: أن الإلهتين إيزيس ونفتيس عندما أخفتا جثمان الإله المغدور أوزيريس فى أحراش الدلتا، وقامتا بطقوس إحيائه، تحولتا إلى حدأتان وراحتا تخفقان فوقه بأجنحتهما وهما تنوحان عليه..
كانت إيزيس قبل ذلك قد ارتدت ثياب الحداد المصبوغة بالنيلة، وراحت تنوح وهى تنشر شعرها و«تعدد» سجايا زوجها - وهو ما يوصف بـ«التعديد» - ومنذ ذلك الحين صار من طقوس المصريين القدماء فى الجنائز أن تتقدم الجنازة امرأتان تنوحان بحرقة على الميت وتحثوان التراب على رأسيهما، تشبها بإيزيس ونفتيس..
لهذا ارتبط طائر الحدأة الجارح بالشؤم والموت، ولأن أقدم من تمثلت فيه كانت إمرأة، صارت المرأة الموصومة بأنها مشئومة توصف بـ«الحداية».
أما البومة، فيرجع التشاؤم منها لأنها تسكن فى الخرائب، ما يربطها بـ«خراب البيوت»، والمثير أن بينما يمثل طائر البومة الشؤم فى الثقافة المصرية، ينظر له الأوروبيون بتفاؤل، غالبا لأنه كان الطائر المفضل للإلهة الإغريقية أثينا، إلهة الحكمة المحبوبة،
ثمة طائر آخر ينضم لـ«المُتشائَم منهم»، هو الغراب، يرجع ذلك لأن أول ظهور له فى القصص الدينى والتاريخى ارتبط بقيام قابيل بن آدم عليه السلام بقتل أخيه هابيل، وحيرته فى كيفية التعامل مع جثمان أخيه، حتى رأى غرابا قتيلا وآخر يحفر الأرض لدفنه، فاهتدى لدفن سوأة أخيه، وكذلك للوارد فى بعض كتب التراث الإسلامى من أن النبى نوح عليه السلام عندما رست سفينته وأراد استطلاع الأمر خارجها، أرسل الغراب، فلما رأى الغراب بعض قتلى الطوفان حط على جثثهم وراح يأكل منها ولم يرجع للنبى الذى أرسل الحمامة فرجعت بغصن الزيتون.
وبشكل عام، كان العرب قبل الإسلام يبحثون عن الفأل فى حركات الطيور، فكان الرجل إذا عزم على أمر زجر الطير فإذا طار يمينا تفاءل، وإذا طار يسارا تشاءم.
2 - «ده يوم نحس!»
عرف المصريون القدماء تصنيف بعض الأيام بأنها أيام نحس، وفقا لمعتقداتهم عن قصص الآلهة، فكانت بعض الأيام وفقا لتلك القصص تتوافق مع أحداث فى أسطورة أوزيريس وإيزيس، فثمة يوم سبب نحسه هو أنه اليوم الذى بكت فيه إيزيس مقتل زوجها، وآخر يوافق الاقتتال بين الإلهين حورس وسِت، ففى مثل تلك الأيام كان المصرى القديم يمتنع عن القيام بأى عمل يرجو التوفيق فيه، بل وربما يمتنع عن أى عمل من الأساس.
كذلك يؤمن البعض بشؤم اليوم الثالث عشر من الشهر، وإن كان الإيمان بشؤم الرقم 13 غير منتشر فى مصر مثل شيوعه فى الثقافتين الأوروبية والأمريكية، وهذا النوع من التشاؤم ينقسم إلى نوعين، الأول هو شؤم الرقم 13 ذاته، والآخر هو شؤم يوم الجمعة لو صادف أن يكون اليوم الثالث عشر فى التقويم الميلادى..
يرجع التشاؤم من الرقم 13 إلى أصلين: الأول يرتبط بتاريخ الرومان حيث يُروَى أن أحد الأباطرة الرومان أراد أن ينصب لنفسه تمثالا مع التماثيل الإثنا عشر للآلهة، فلم يلبث إلا أن تعرض للقتل، الأصل الثانى يرتبط بالتراث المسيحى الغربى، ففى العشاء الأخير للسيد المسيح عليه السلام كان عدد المجتمعين على مائدة العشاء هم 13 رجلا، المسيح واثنا عشر من الحواريين، وكان الثالث عشر منهم إذا بدأنا العَد بالمسيح هو يهوذا الإسخريوطى الذى باع سيده لليهود الفريسيين والرومان، ولو بدأنا العد بالحواريين وختمنا بالسيد المسيح، فإن الثالث عشر قد تعرض للخيانة والتعذيب والصلب، وفقا للمعتقد المسيحى.
أما تشاؤم البعض من يوم الجمعة 13 فيرجع لأنه، فى الموروث المسيحى، يوافق اليوم الذى صُلِبَ فيه المسيح.
وثمة يوم نال نصيبه من التشاؤم هو يوم الثلاثاء، حتى أن هذا الأمر مثل لفترة trend على موقع فيسبووك، لا أعرف ما الذى أعاد إحياء هذا الأمر، لكن الفضول دفعنى للبحث فى بعض كتب التراث والأساطير العربية ففوجئت بأن البعض قد ذكر أنه اليوم الذى سال فيه دم الحيض من المرأة لأول مرة، فكان العرب القدماء يعتقدون أنه يوم مفضل للحجامة، بحيث يحقق الرجل واقعة سيل الدم بنفسه فيبطل الفأل السيئ، وإلا فإنه عرضة لأن يسيل دمه لأى سبب آخر.
3 - «طالما السلاح اتسَحَب يبقى لازم يتزَفَر! السلاح يطول يا صاحبى!»
ينتشر فى الأوساط الشعبية معتقد أن طالما تم سحب السلاح الأبيض والتلويح به، فلا بد أن يتم «تزفيره»، أى إسالة الدم به..
كذلك ينتشر معتقد أن التلويح بالسلاح ولو على سبيل المزاح، سيؤدى حتما لأن تسيل الدماء، كما يتشاءم الكثيرون من ترك المقص مفتوحا أو من فتحه وإغلاقه فى الهواء.
هذه الأفكار بالذات تضرب بجذورها فى أعمق أعماق التاريخ، كان الإنسان القديم يدرك أن الدم هو سائل الحياة، وغم اضطراره للقتل وسفك الدم فى الصيد أو الحرب، كان يشعر أنه بذلك يتجاوز خطا معنويا حساسا، فكان يتحايل على ذلك بالتضحية بالدم وجعله يسيل على الأرض، أمه التى يخرج منها ولها يعود، أو على أنصاب وتماثيل آلهته، والويل له إن لم يفعل ذلك، لأن الآلهة عندئذ ستنتقم منه، بل وربما عم البلاء مجتمعه كله.
ارتبط السلاح إذن عنده بـ«حق الآلهة فى قربان الدم»، حتى أنه إذا خرج للحرب كان لا بد أن يقدم قربانا يفتدى بدمه نفسه ورفاقه، والقارئ لملحمة الإلياذة لهوميروس يقرأ عن غضب الإلهة أرتميس من الجند الإغريق الذين أهملوا تقديم قربان لها، فقضت بأن يقدم قائدهم أجاممنون ابنته قربانا لها لترفع غضبها عنهم،
وفى الحروب، كان المقاتلون يؤمنون أن دماء القتلى هى بمثابة قربان للأرض، فإن لم يقاتلوا وجب عليهم أن يتقربوا لها بإسالة أى دم.
ارتبط الأمر كذلك بالثأر، فكانت العرب قبل الإسلام تعتقد أن القتيل إذا لم يؤخد ثأره تجمع دم فى دماغ جثته وخرج منه طائر اسمه «الهامة» يطارد أهله ويصيح بهم «إسقونى إسقونى».. وكانت «العُزَى» إلهة العرب القديمة تحب التقرب لها بالأضحيات والقرابين التى كان بعضها بشريا!
حصيلة كل تلك المعتقدات عن الدم، وجدت طريقها إلى الوجدان الجمعى للشعوب، متحايلة على التطور وتغير المعتقدات الدينية، لتزرع فيهم ذلك الاعتقاد أن إبراز السلاح يتطلب إسالة الدم وإلا فإن شرا ما سيقه.
وللحديث عن التشاؤم بقية فى المقال القادم إن شاء الله.