يأتي كتاب "اللطائف الصوفية من الفرائد السويركية" لمؤلفه الأديب رأفت السويركي على غرار كتاب "الحكم العطائية" لابن عطاء الله السكندري والذي يشتمل على 264 حكمة، وهي عبارات معبرة عن خطرات نفس عُرضت له في أذواقه، فدوَّنها بغير تعمُّل تصنيف أو تكليف تأليف.
يقول السويركي في عتبته الأولى بالكتاب: "مقامي المأمول ما يحققه قلبي باجتهادي في الوصول إلى أنوارك باليقين"، وفي إهدائه يقول: "لأنني أحببتُه فأحبني، وعملت بحبي له فمنحني عطاء فضله؛ زوجتي وأم أولادي وجذر أحفادي".
إذن من البداية يُعلن السويركي بطريقة غير مباشرة بأنه ضد الرهبانية، وأن يعيش الإنسان المتصوّف دون زواج ودون إنجاب، وهائم سائح في أرض الله بغيري مأوى أو سكن، وضد لبس الخرقة الصوفية، والاعتماد على عصاه في حلِّه وترحاله وإطلاق شَعر لحيته وشَعر رأسه بلا تهذيب أو تشذيب أو استحمام، وتلك الصورة النمطية المأخوذة عن المتصوفة والدراويش.
إن د. أحمد يوسف علي يؤكد في تصديره أن الكتاب الذي بين أيدينا هو "كتاب تصوفي، والكاتب المتصوف هو رأفت السويركي، وإن اللطائف والكِتَاب صنوان، والصوفي يبصر الوجود بعين القلب التي جعلت حاسة العين بصيرة لا مبصرة فقط، والقلب يجعل كل الحواس الأخرى على هذا النسق، وتتحوَّل كل أشياء الوجود عند الصوفي إلى صور ورموز وأشكال مردودة إلى مَعينها الأول".
ويضيف الدكتور أحمد يوسف: "ولكن الذين اختطوا لإبحارهم نهجًا وسبيلاً يمكن حصرهم في التراث الصوفي الإنساني لدى كل الأمم. واليوم نضيف إليهم رأفت السويركي الذي قد نتساءل – في البداية - عن معنى اسمه الذي اشتق منه طريقته في التصوف؟ فيجيب أن اسمه يعود إلى اسم قبيلة "السواركة" التي يحمل الكاتب لقبها، وهي القبيلة العربية التي تنتمي إلى بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس مُضر بن نزار بن معد بن عدنان، والذين ينحدرون نسبًا من ذرية الصحابي الجليل عكاشة بن مُحصن بن حرثان الأسدي رضي الله عنه، وهو من السابقين لدخول الإسلام، وكان لصيقًا بالرسول الكريم صلَّى الله عليه وسلم، ومشاركًا في غزوة بدر وأحد والخندق، وفاز بالشهادة في "حروب الردة" العام 13 هـ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ويشير المؤلف إلى أن العارف بالله الشيخ "عيد أبو جرير" – من عشيرات الجريرات إحدى عشائر قبيلة السواركة بسيناء هو المؤسس الأول للصوفية في سيناء، لتكون هذه اللطائف تأكيدًا لامتداد روح خطاب علامات التصوف.
ويبدو أن أحدًا من قبيلة السواركة لم يلجأ إلى كتابة خواطره وأفكاره ومخاطباته ومواقفه، مثلما حدث مع الأديب والشاعر رأفت السويركي، فهو لم يحدثنا بهذا الأمر، ولو كان أحدٌ من السواركة خاض في هذا المجال لحدثنا عنه رأفت السويركي. وقد يكون حدث هذا الأمر ولكن لم يصل إلينا، إذ التصوف – كما يوضح د. يوسف – هو "إبداع فردي يتَّأتَّى بعد مُجاهدة، وتخلّ، وتحلّ، وصولا إلى التجلِّي. وأن أدب المتصوفة ألصق بتجربة المتصوف وأدل عليها".
لقد ألحق السويركي بعنوان كتابه الصادر عام 2024 كلمة "اللطائف" التي وصفها بالصوفية، أي "اللطائف الصوفية"، واللطيفة كما يوضح د. يوسف نكتة تؤثِّر في النفس فتنشرح لها. فهي نورٌ وبرقٌ، وهي كل إشارة دقيقة المعنى، تلوح للفهم لا تسعها العبارة. وهي كما يقول الصاحب بن عباد:
رقَّ الزجاجُ وَرَقَّت الخمرُ ** وَتشابها فَتَشاكل الأَمرُ
فَكَأَنَّما خمرٌ وَلا قَدحٌ ** وَكَأَنَّما قَدحٌ وَلا خمرُ
اللطائف – شكلا – قول قصير مختصر مكيف، مرهون بخاطرة هي موضوعه، إنها من النصوص القصيرة جدا، على غرار القصة القصيرة جدا، والقصيدة الومضة، ولكنها غير القصة وغير القصيدة، بل إن القصيدة هنا اسمها "صوفيدة".
إن اللطيفة – وكما يوضح د. يوسف – هي "الوحدة النصية المكوّنة للكتاب"، وهي في ذلك كما أوضحت من قبل مثل الحكم العطائية والمواقف والمخاطبات. فكل نص من الحكم والمواقف يمثل أيضا وحدة نصية قائمة بذاتها.
من اللطائف السويركية على سبيل المثال: "العقل هو الطريق للتواصل، والتماهي والتمازج والاتحاد والحلول والانفصال والاتصال والدوران حول فيوض مبدع الوجود".
وأيضا: "المكاشفة ملاطفة طريقها إخبار العليم لمن يريد أن يتعلم سر الوجد للوصول".
وأحيانا تكون اللطيفة عبارة عن تعريف بمصطلح صوفي ما من وجهة نظر سويركية، وعلى سبيل المثال التصوف هو "تجربة فكرانية وثقافوية عميقة أعيشها وتعيشني. لم أكن درويشًا ولن أكون، كي لا أغيب فَأضيع في السراديب، ولا يتعالى القلب بدفق الوجيب". وفي هذه اللطيفة ينفي السويركي عن نفسه الدروشة، فهو لم يكن ولن يكون، وفي ثنايا اللطيفة يوضح بطريقة ذكية أسباب رفضه للدروشة، فهي غياب وضياع في السراديب، وفيها لا يتعالى القلب بدفق الوجيب.
هكذا يكشف لنا هذا النص أو هذه اللطيفة أن السويركي يقبل التصوف ويرفض الدروشة. البعض يخلط بينهما ويظن أن الدروشة تصوف، أو أن التصوف دروشة، ولكن شتان بينهما في نظر السويركي.
ومن اللطائف الجميلة والفريدة فعلا قوله: "تصوفتُ منذ غضاضة العمر، وما ذكرت، لكن بياني أغناني، فهو بلاغات إيماني وعلامات النعمة، وإشارات التشوف، فمن شاء التقط، ومن شاء قنط، مصباح النور لا تخبئه ظلمة الصدور".
إنه يعرِّفُ "اللطيفة" بقوله: "اللطيفة صحيفة محفوفة بالنور، وممهورة بمغزل صوف الزهد، سعيها الفوز بالوعد والموعود، لأنها بلغة القلب منثورة، وبروح الشعر مسطورة".
احتوى الكتاب – الصادر عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة، وجاء في 246 صفحة - على أكثر من 1000 (ألف) لطيفة صوفية من الفرائد السويركية، التي تدور في الفلك الصوفي بمفهوم الأديب والشاعر.
وهو في بعض الأحيان يعرّف بعض المصطلحات الخاصة به، مثل "النَّغْمَانيَّة". فما هي "النَّغْمَانيَّة" هي فضاء إيقاعوي من إبلاغات دورانات الزمن، يسعى لجعل القلوب تدور نبضًا نبضًا نبضًا في دوائر الحب: الله .. الله .. الله". وكأنني أرى في هذا التعريف رقصة المولوية. أما "الدَّوَرَانيَّة" فهي حالة تعيشها قلوب الواصلين، بالسعي في أفلاك حضرة النور الذي لا يحتجب زمانًا ومكانًا. وهي حالة انتشاء تعني التوحد والدخول في فلك الوصول بالقدرة والقبول؛ فكن دؤوبًا في حالة الشوق، فهو مركز الحب".
وهناك تعريفات لمصطلحات أخرى مثل: العشقانيَّة: حالة من الذوب المطلق بالوجد، والتلاشي في فضاء المعشوق قلب النور. ولعل القارئ يتساءل ما الفرق بين العشق والعشقانيَّة؟
وهناك الولهانية، والحلولنية، والصدورانية، والبوحانية، والحضرانية، والفيضانية، والإشارانية، والحكمانية، والشوقانية، والفضلانية، والتسبيحانية، والتجليَّانية، والفتوحانية، .. إلخ.
وعلى ذلك سنجد أن هناك قاموسًا خاصًّا وتعريفات خاصة باللطائف الصوفية (لم يقل الصوفانية) من الفرائد السويركية.
أما الجزء الخاص بالقصائد ويحتوي على أربع قصائد متوسطة الطول، فهو لا يقول "قصيدة"، وإنما هي "صوفيدة"، قاصدًا بذلك الجمع بين "شعرية الأنثورة"، و"شعرية القصيدة"، بمحمول "لغة النور"، والتي تتماهى في نسيجها إيقاعاتُ التفعيلة، ونغمات النثرية، فتكون "اللطيفة" هي ابنة لغة القلوب، وأهل القلوب سيعرفون كُنه النور فيما هو مكنون.
يقول في الصوفيدة الأولى على سبيل المثال: هكذا يجمع رأفت السويركي بين الشعر والنثر النورانيين في كتابه "من أدب التصوف" ليذكرنا بكبار المتصوفة الذين جمعوا مثله بين الشعر والنثر من أمثال محيي الدين بن عربي والسهروردي والحلاج والنفري وابن عطاء الله السكندري والإمام الجنيد وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطَّار وغيرهم.
سوف نحتار حين نختار بعض الفرائد التي ننهي بها هذا العرض لأحدث كتب الأديب رأفت السويركي الذي سبق له أن قدم لنا ديوانًا شعريًّا بعنوان "بحثًا عن النهر" ومن دراساته الأدبية: "نموذج البطل المنكسر" حول أعمال القاص الإماراتي عبدالحميد أحمد، و"عبدالناصر في شعر سالم بن علي العويس"، و"دلالة الرموز المحلية في التشكيل بدولة الإمارات العربية المتحدة"، و"الطفل والقراءة والتلفزيون".
يقول السويركي عن العرفان: "العرفان طريق معرفة الله، يبدأ بالأنبياء والأصفياء والعُرفاء، فاجتهاد القلب وسلامة نزوعه ليكون مصباحًا؛ لذلك يدرك العارفون رحمته وألطافه وغُفرانه ومكرماته وهُداه".
ويقول: "خلوتي هي انفرادي بحضور دفقات نورك في دهاليز قلبي لأربعين سنة أكون فيها عبدًا مُتحنثًا من نسيان أفضالك المغرقة في البركات".
ويقول: "يقولون كل شيخ وله طريقة؛ فتوزعتْ ريحُهم، وتبددتْ قواهم، في الدوران سعيًا إلى الحقيقة. دع من تَشيَّخُوا وتأمل في قلبك، ستجد النورَ متدفقًا وأنت لم تكن يومًا من أهل طريقة".
الفرائد السويركية في أدب التصوف