المنتصرون ليس عليهم أنْ يُقدِّموا تنازُلات، وعندما خرجَ بشَّار الأسد من أخطر مُنحنيات الحرب الأهلية فى 2015 اعتبر نفَسه مُنتصِرًا؛ فتشدَّد أكثرَ مِمَّا كان فى السابق، والخَشيةُ اليومَ أن ينظُرَ الواقفون على أطلالِ نظامِه لأنفسِهم من زاوية النصر أيضًا؛ فلا يضعون اعتبارات التوافُق مع بقيَّة المكونات الوطنية فى الحسبان، ولا مع الدولة قبلَهم وفى المقام الأوَّل؛ من حيث كَونِها فلسفةً وبِنيةً مُؤسَّسية، وليست زائدةً دُوديَّة مُلحَقَة على ميراث البعث فى صيغته الأَسَديَّة. هُزِمَت سوريا بسياسات رئيسِها، ويجب ألَّا تُهزَمَ مُجدَّدًا على طريق التحرُّر من ظِلِّه الثقيل.
ضَيَّع «بشَّار» فُرصًا لا حصرَ لها لإطفاء النار، ولاستدراكِ ما فاتَه بسُوء التقدير وخِفَّة القرارات. ولو توقَّف لحظةً واحدةً ليُقيِّم المسألةَ فى ظروفٍ ناضجة؛ ما أغراه البقاءُ بمُواصلة البطش، ولا اعتبر انفتاحَ العرب عليه مُؤخَّرًا تثبيتًا لسرديَّة النصر، وليس مُحاولةً لإسناد الدولة، وإعانتها على الخروج من مأزقِها الطويل.
وإذا كانت العُقدةُ فى وجودِه أنه حاربَ الطواحين، وغيَّبَ فضيلةَ المُراجعة والتقويم؛ فإنَّ على الصاعدين الجُدد ألَّا يُكرِّروا أخطاءه، وأن يخرجوا سريعًا من اندفاعة القوَّة إلى كوابح العقل، ويعرفوا أنَّ سياسةَ الأُمور أصعبُ كثيرًا من تطويعها بالسلاح. وقد يحدثُ أن تنقلِبَ المزايا عُيوبًا، وتصير عواملُ الترجيح نقاطَ ضَعفٍ لأصحابها. ومن هُنا؛ يكونُ الانتصارُ على الذات أَوْلَى وأهمَّ من الافتتان بهزائم الآخرين.
الثورةُ فى جوهرِها هَدمٌ وبناء؛ لكنَّ أصعبَ ما فيها ألَّا ينقطِعَ اتِّصالُ السلسلة الحضاريَّة للبلد، لمُجرَّد أنَّ الفائزين فى إحدى جولاته، يضعون لحظتَهم الزاهيةَ فوقَ بقيَّة اللحظات، أو يُخطئون الفرزَ بين ما يخصُّ الهُويَّة الجامعة وغير العارِضة، وما يُحسَبُ على لَونٍ سياسىٍّ وتجربةِ حُكم. لم تَكُن سوريا دولةً كافرةً بالمعنى الردىء لدى الأُصوليِّين، كما لم تكن إسلاميَّةً، ولن تكون.
عليهم استيعابُ أنهم فاصلةٌ بين مرحلتين؛ فإمَّا تسهيل الانتقال، أو أن تدورَ الدوائرُ عليهم كسابقيهم. والحدُّ بين السلوكين ألَّا يُستبَعدَ أحدٌ من ورشة المستقبل، ولا حتى طائفة الأسد وظهيره السياسى. طُبِعَتْ المُؤسَّسات ببَصمَته؛ لأنها طبائعُ الأُمور فى الشرق، وطبيعة الأنظمة الشموليّة التى لا تقبلُ الاختلافَ ولا تتعايشُ معه. والعودةُ من طريق الضياع تتطلَّبُ خرائطَ مُغايرةً لتلك التى قادت إليه، أمَّا تحديثُها فى الشَّكل وتجميدُها فى المضمون؛ فقد لا يحرفُ المسارَ بعيدًا من الهاوية.
مُعضلةُ الساعة تتجاوزُ بشَّار الأسد، وحتى طموحات أحمد الشَّرع فى ثوبه الجديد، بعدما بدَّل رداءَ الإرهاب بوجهٍ سياسىٍّ اصطَنعوه له بعناية. الامتحانُ كلُّه فى كيف تُديرُ سوريا علاقتَها مع ذاتها، وتفرزُ الصالحَ من الطالح؛ فتستبقى ما يُمثِّلُ أصلاً ثمينًا من تركة الراحلين، وتنتخبُ من اقتراحات الوافدين ما يُعينها على تجديد السرد، وتحديد المَسرَد، وترسيم طريقٍ صاعدةٍ إلى التشَافى والعافية. أى أنْ تعرِفَ الفارقَ الدقيقَ بين العابر والمُقيم، وتختارَ بموضوعيَّةٍ وانفتاحٍ ما تحتاجُه من الحقبة الزائلة، وتستبعدَ بعقلانيَّةٍ وحَسمٍ ما لا يُناسبها من برنامج الآتين الجُدد.
رحلَ الأسدُ وبَقِيَت الغابة، ومن البديهيات أنَّ تيَّارًا قد يطلبُ المُلكَ لنفسه، وغيره سينحازُ لتدويره بين جوارحِها. والخطيئةُ أن يتوهَّمَ البعضُ فى مثاليَّةٍ زائفةٍ أو يُبشِّروا بها، وأن يحسبوا أنَّ غريزةَ الافتراس ستنطفئ فى صدور الجميع. قانونُ الدنيا يقطعُ بأنَّ الفرائسَ لن تفنى، وما دامت باقيةً فستبقى الضَّوارى والصيَّادون.
والجَهدُ يجبُ ألَّا ينصرفَ إلى التبشير باليوتوبيا؛ بل إلى تحصين السياق من أن يصيرَ «ديستوبيا» كاملة، أو أنْ يتشوَّه بأكثر مِمَّا كان. والضمانةُ هُنا لا تتأتَّى من الكلام، ولا بسَتر الذئاب فى فراء الحِملان؛ إذ كُلَّما احتجتَ لتغطية ذئبٍ ستَسلخُ حَمَلاً بالضرورة. وعليه؛ فالواجبُ أن تُحدَّدَ الخطوطُ الفاصلةُ بسياجٍ راسخ، وأن تتوزَّع الأنصبةُ بما يقطعُ الطريقَ على نزوات الاستئساد لاحقًا، وعلى ألاعيب الاحتيال والتدرُّج فى توسيع مساحات السيطرة.
بشَّر «الجولانى» فى إطلالته على شاشة CNN الأمريكية بكثيرٍ مِمَّا يتجاوزُ السياقَ السورىَّ الراهن، ويتخطَّى قُدراته الذاتية، وقد يُحسَبُ على الرومانسيَّة أو التضليل المقصود. قد لا تكونُ «هيئةُ تحرير الشام» فى مُستواها القيادىِّ إرهابيَّةً كالسابق؛ لكنَّ ثوابتَها الأُصوليَّة لم تتبدَّل بالتأكيد، وقضيَّة القواعد ما تزالُ غائمةً وخارجَ إطار البحث والتمحيص.
وإذا افترَضنا فى قائدها قُدرةً على ترويض المُختلفين وتطويعهم؛ فإنها النسخةُ الأَسَديَّة الشُّموليَّة بالضبط. أمَّا لو كان عاجزًا عن إنفاذ ما يَعِدُ به، أو أنها مُجرَّد أُمنياتٍ مُعلَّقةٍ على الأمل والنازعِ الشخصىِّ؛ فقد يكونُ المجالُ بكامله على مَوعدةٍ مع انفجارٍ وَشِيك!
الكُتلةُ الصُّلبة تحت يدِه من مشاربَ شَتَّى، وتُنازِعُه جماعاتٌ وتيَّاراتٌ أهدأُ منه أو أشرس؛ لكنها لا تتلاقى على رؤيةٍ، ولا تنخرطُ فى مشروعٍ واحد. ونحتاجُ أن نتذكَّر أنه قبل شهورٍ قليلة كان على حَرفٍ من الفوضى فى إدلب.
تمرَّد بعضُ أتباعه داخل التنظيم، وثارَتْ عليه تنظيماتٌ أُخرى، وتفجَّرت فضائحُ عن تعذيب المُحتجَزين فى سجونه؛ بل قِيْل إنَّه تعرَّض لمُحاولةِ انقلاب. ولعلَّ النصرَ الراهنَ لا يكفى لترميم الصُّدوع وسَدِّ الفجوات، بل على العكس قد يُغذِّى التناقُضات ويُعمِّقُها، ويُحفِّزُ السِّباقَ على المكاسب وحظوظ الغنيمة، وعلى مواقع الفاعلية والتنعُّم فى المناخ الجديد.
وهكذا؛ يقفُ الرجلُ أمامَ معركةٍ ثلاثيَّة: فاتحتُها مع الدولة التى يَرِثُ مرافقَها، ثمَّ مع الرُّعاة الخارجيِّين وإملاءاتهم، أمَّا الثالثةُ والأخيرة فلَها طابعٌ قبائلىٌّ يتضخَّمُ داخلَ العائلة الواحدة، تُحرِّكُه تطلّعاتٌ حَركيَّةٌ نَفعيَّة يُمكِنُ التفاوضُ فيها، وتحكمُه اعتباراتٌ أيديولوجيَّة وفِقهيَّة قد لا تقبَّلُ التصرُفَ، ولا يتيسَّرُ النقاشُ فيها من الأساس. هو نفسُه قال إنه يسعى لبناء دولةٍ إسلامية؛ لكنَّه لم يَقترِبْ من الأُسُس وملامح المعمار المطلوب، وما إذا كان على طريقةِ الجيش الحُرِّ وجيش الإسلام وحُرَّاس الدين وأنصار الشام وغيرها من فواعل أُصوليَّةٍ مُنافسةٍ، أم تستأثرُ بها هيئةُ تحرير الشام. وإن حدثَ؛ فوفقَ أيَّة صيغةٍ منها الداعشيَّة أم القاعديَّة، أمْ ما بعد «البراندينج» الجديد و»نيو لوك» الزعيم؟!
كُلُّها تساؤلاتٌ مِفصليَّة لا أجوبةَ عليها؛ ولعلَّ المَعنيِّين المُباشرين بها لم يَضعوها على لائحة اهتمامِهم أصلاً، ولا يملكون وصفةً جاهزةً لإدارة صراعاتهم البَينيَّة، ما يفرضُ عليهم بالضرورة أنْ يُؤخِّروا انشقاقاتهم الداخلية، تحت ستار التفرُّغ لمُصارعة الأغيار والمُنافسين.
أكبرُ التحدِّيات تبدأُ من النظر فى مُستقبل السلاح. نحو مائةِ ألفِ مُقاتلٍ أو يزيد من كلِّ التيَّارات، أنجزوا غايتَهم المُحدَّدة سَلفًا، وباتوا بين خِيارَى البطالة أو تصريف فوائض القوَّة فى الشارع. لا يصحُّ أن تصيرَ الميليشيا جيشًا مُوازيًا لجَيش الدولة، يتقدَّمُ عليه فى المكانة ولا يُشاركُه صفاءَ العقيدة الوطنية، كما لن يَقبلَ كثيرون منهم الدَّمجَ فى المُؤسَّسة العسكريَّة الشرعية، وأغلبُهم لا يصلحون لاعتباراتٍ فنيَّة وفكرية، أو لأنهم ليسوا سُوريِّين من الأساس.
وإذا كان «الجولانى» قادرًا على إدارتهم؛ فإنه قد يستخدمُهم لإرهاب الخصوم وتطويعهم. أمَّا لو عجزَ فسيُصبحون شوكةً فى حَلقِه، وعاملاً فعَّالاً فى إرباك المرحلة وترتيباتها المأمولة. وعندما ينحصرُ الصراعُ فى دائرة الأُصوليَّة؛ فالمنطقُ أنَّ المدنيِّين سيُستَبعَدون من مجال النظر والفعل، ولن تُؤخَذَ شواغلُهم وتطلُّعاتهم ضمن الاهتمامات، أو على محمل الجدّ.
أثقالُ الماضى تُغَمِّى العيون، ونشوةُ الفَرَح بإطاحة النظام تحجِبُ العقلَ عن الأسئلة الواجبة. قال «الجولانى» إنَّه يسعى لتسليم الحُكم إلى سُلطةٍ مُنتَخَبة، وحلِّ الهيئة بعدما أنجزَتْ هدفَها الوحيد تقريبًا. لم يُحدِّد مَوقِعَه فى المُعادلة الجديدة، ولا مُستقبلَ الميليشيا بعدما يُسَرِّحُ أفرادها؛ لو صَدَق فى قوله، وهل يَصيرون حَرَسًا ثَوريًّا أم يُدمَجون فى بِنيَة الدولة.
الانتخابُ مَعناه الديمقراطية، وهى تتطلَّبُ نظامًا مدنيًّا يتواضعُ عليه الجمهور، ويحكمُه عَقدٌ اجتماعىٌّ يتحصَّنُ بدستورٍ مَكتوب. المَرجعيَّةُ الأُصوليَّة تأبى أن يكونَ الحُكم والتشريع لغَير الله، وتحتقرُ الدساتيرَ والمُواضعات البشريَّة على صِيَغ التعايُشِ وإدارة المجال العام، وبهذا؛ تصيرُ الحالةُ الديمقراطية المطلوبةُ على طَرفِ نقيضٍ مع أجندة الساعين لاستحداثها، ما يُهَدِّدُ بتكييفها وفقَ تركيبةٍ شُموليَّةٍ تُعيدُ إنتاجَ نسخةٍ سُنيَّةٍ من نظامِ إيران الشيعىِّ، أو بالعودة لاحقًا عن التعهُّدات بعدما تتحقَّقُ أغراضُ الدعاية الظرفية، وعلى رأسها نَزعُ صِفَة الإرهاب عن الهيئة وزعيمها، واستكمال عملية «غَسْل السُّمعة» التى تُدارُ لصالحِه بأحدث ما تعرفُه نظريَّاتُ التسويق وشركات العلاقات العامَّة.
صيغةُ الجمهورية الإسلامية أكبرُ الأسبابِ وراء إيرادِها مَواردَ التهلكة. لقد ابتكرَتْ قشرةً حَداثيَّة فوق كُتلةٍ رجعيَّة «قَرَوَسطِيَّة»؛ فما انتفعَتْ بالمدنيَّة، ولا تجنَّبت مَضارَّها على نظامٍ دينىٍّ مُتشدِّد. تفتَّحتْ عيونُ الناس على حقوقِهم الضائعة، وطُلِبَ منها الوفاءُ باستحقاقاتِ الدول الحديثة، بينما ظلَّت تُفكِّرُ وتعملُ بدِماغِ الملالى ومَرجعيَّات الفِقه العتيقة؛ فتشوَّهتْ علاقتُها بالعصر، وغامت فى عَينَيها معانى السياسة والاستراتيجية والنصر والهزيمة.
وهكذا؛ كانت كُلَّما تتلقَّى صَفعةً تُبرِّرُها بالصبر الاستراتيجى، وكلما تُدْفَعُ للوراء تُفسِّر إزاحتَها بالتراجُع التكتيكى، وقد تلبَّس بها «الأسد» وسَارَ على دَربها؛ فكانت أزمتُه القاهرةُ فى فوارق التوقيت، وفى أنه لا يقرأُ الأُمورَ على وَجهِها الصحيح، وقد يأتى مُتأخِّرًا، أو لا يأتى أصلاً.
مُطابقةُ السِّياقَين وحَّدَتْهما فى العِلَل والمآلات. أفرطَتْ إيرانُ كثيرًا فى ادِّعاء البأس تحت لافتة المُمانَعة، وفى دعايات «وحدة الساحات»، وفاعليَّتها فى إنقاذ الحُلفاء وتقويض الأعداء؛ حتى داهمَها «طوفانُ السنوار» وكشَّرتْ إسرائيلُ عن أنيابها.
فجأة احترقَتْ ورقة «حماس»، وتَدَاعى الحزبُ بما يتجاوزُ أسوأ الخيالات السوداء، وساءتْ العِلاقةُ مع «الأسد» لنَأيه عن المُشاركة، ولأنهم اتَّهموه فى الضربات التى طالتهم على امتداد سوريا، وأضمَروا فى نُفوسِهم أو صارحوه خلفَ الكواليس بشُكوكِهم فى تنسيقِه مع الاحتلال، وأنه يبدأُ مسارَ التمرُّد عليهم بالإبلاغ عن مواقعهم ومُستشاريهم.
أمَّا ما تكشَّف لاحقًا، فكان على النقيض تمامًا، ولم يتجاوز مسألةَ الهشاشة والانكشاف، وأنَّ النظامَ على خِلاف ما يدَّعيه لنفسِه تمامًا، بمعنى أنَّ اختراقَ دمشق لا يختلفُ عمَّا حدث فى ضاحية بيروت الجنوبية، وفى طهران ذاتِها، وهو نتاجُ الضَّعف لا الخيانة، ولن تَستُرَه الخُطَبُ الناريَّةُ أو المُجاهرة بالثبات.
وبعيدًا من المُكوِّن الشعبىِّ فى حالة الغضب؛ فإنَّ الفصائلَ المُسلَّحة انتصرَتْ بضآلة الغريم لا ضخامة الذات. لكنَّ المأزقَ أنْ تستعيرَ مفاهيم النصر والهزيمة من أعدائها، وأنْ تتورَّط فى أمراضِهم أيضًا. خُصومتُها اليومَ ليست مع نظامٍ شُمولىٍّ، ولا عقيدة مُضادَّة؛ بل مع شارعٍ أتعبَتْه عقودُ القَهر والتنكيل، ولديه أحلامٌ كَتمَها طويلاً فى صدره، أو حُبِسَ معها فى زنازين السجون والهَلَع.
خطيئةُ السُّلطة أنها لم تَترُكْ هامشًا للتنفيس، وجعلت الصراعَ مسألةً وُجوديَّةً لا تقبلُ القِسمة على احتمالين، أى أنَّه لا حياةَ لطَرفٍ إلَّا بزَوال الآخر. ويتعيَّنُ على الصاعدين ألَّا يُكرِّروا تجربة الهابِطين، ولا أنْ يختلِقوا تناقُضًا لا مكانَ له بين أطماع القادة وأوهام القواعد، ولا بين أهدافهم الخاصة، والغايات الوطنية العريضة، وقتَها ستكونُ مرحلةُ التخلُّص من «الأسد» مُجرَّد فاصِلٍ قبل إعادة إنتاجه، أكان بانقلاب قَصرٍ داخل البيئة الأُصوليَّة نفسها، أمْ باستنهاضِ مُنقذٍ يحملُه غضبُ الشارع إلى مقعدِ حافظ وبشَّار.
الجولانى والأسد الابن مُتشابهان للغاية، كلاهما درسَ الطِبَّ، وأهمُّ عطاياه أنه يُمَكِّنُ من القُدرة على التشخيص واقتراح العلاج. الراحلُ أنجزَ دراستَه ولم يُمارِس المهنةَ إلَّا قليلاً، والقادمُ غادرَها من مقاعدِ الجامعة محبَّةً فى الإرهاب تحت لافتة الجهاد، أحدُهما حملَه معه إلى السُّلطة، والآخرُ حَشَا به بُندقيَّته. وكلاهما أنتجَتْه ظروفٌ خارجيَّة، رباطها الدم أكان بالرَّحم أم بشراكة القتل؛ لا بالجدارة أو الانتخاب الطبيعى، ووجدَ نفسَه على رأسِ منظومته، مع حداثةِ عُمرٍ وضآلةِ خبرةٍ وتجارِب.
وإذا كان «بشَّارُ» افتتحَ عهدَه بانفتاحٍ أسمَوه «ربيع دمشق»؛ فقد قدَّم أحمد الشَّرع ربيعَه الخاص وعودًا وتطميناتٍ، والانقلابُ السريع هناك مُرشَّحٌ للتكرار هُنا؛ لا لأنَّ البيئةَ السوريَّة لا تقبلُ التطبيع مع الحداثة ووصفات الحُكم الناضجة؛ إنما لأنَّ العراقيلَ واحدةٌ فى الحالين: بُؤسُ القائد، ورَخاوةُ الجماهير، والرياحُ العاصفة من كلِّ الأنحاء.
غزوُ العِراق أزعجَ الأوَّلَ، ووجودُ إيران فيه سيزعجُ الثانى، ولا فارقَ بين الانخراط فى مشروع الشيعيَّة المُسلَّحة قديمًا، أو الاستتباع لأجندة العُثمانيَّة الجديدة حاليًا.
لسببٍ أو آخر، رُبِطَ مصيرُ سوريا مع لبنان، اتَّخذتها الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ مُرتكَزًا يطلُّ على إسرائيل، ومَعبرًا لإمداد الحزب وتوطيد سُلطته على بيروت ونظامِها وطوائفها، ورآه الاحتلالُ والجارُ الشمالىُّ خنجرًا فى الخاصرة، يُهدِّدُ بسيولةٍ جيوسياسيَّةٍ لا تحتملها تلُّ أبيب، ويُبشِّرُ بدولةٍ كُرديَّةٍ تُزعجُ ثلاثةَ عواصم بجانب دمشق نفسِها. وإذا نُظِرَ لإسقاطِ الأسد على أنه إنقاذ؛ فقد جاء من لبنان، والأخيرُ لا نجاةَ له بمعزلٍ عن الشام.
اليومُ التالى فى بيروت يبدأُ من انكسار الحزب؛ لكنه لا ينتهى عنده، ويجبُ البُعد عن اهتبال الفرصة السانحة لهذا. الشيعةُ مُكوِّنٌ أصيلٌ فى لبنان، وإذا كان عليهم ألَّا يَصرِفوا فائضَ القوَّة، لتعويض خسائر الميدان على حساب بقيَّة الطوائف؛ فإن الشُّركاء مُلزَمون باستيعابه وعدم الضغط على أعصابه العارية، والبُعد الكامل عن أيَّة مُحاولة للتشَفِّى أو الحَطِّ من مكانته الماديَّة والمَعنويَّة، أو تقليص حضوره ولو تيسَّر القَفزُ على وثيقة الوِفاق الوطنى.
هدوءُ سوريا سيُحفِّزُ عمليَّةَ الانتقال اللبنانية المُرادَة، وفوضاها قد تدفعُ الحزبَ لاستغلالها مَحليًّا، أو تنفيس طاقته المكتومة وراء الحدود. وعلى الفاعلين الجُدد فى دمشق أن يستضيئوا بدروس الجارِ الغربىِّ، ويَستحدِثوا نُسختَهم من الطائف بمعناه التعايُشى لا الطائفى، بحيث لا يُنظَرُ للعَلويِّين والمسيحيِّين والإسماعيليين والكُرد وغيرهم على صِفَة الأقليَّة، ولا تُغريهم زهوةُ السَّبق بأنْ يَشطبوا ما عداهم من المُعادلة.
كان رأسُ النظام مطلوبًا؛ لكنَّ التحفيزَ السريعَ لم يَكُن بعيدًا من استهداف الأُصول الإيرانيَّة. وإذا صَحَّ تمديدُ الخَطِّ على استقامته، فإنَّ اقتفاءَ أثرِ طهران قد ينتقلُ لاحقًا للجيران، وأقربهم العراق بالأصالة، والأردن بما له من اتِّصالٍ وثيقٍ مع الفلسطينيين وقضيتهم.
يجبُ ألَّا تكونَ الأُصوليَّةُ السُّنيَّة فى سوريا عَونًا لأحدٍ فى أيَّة حربٍ طائفية، أكان فى الداخل أم الجوار، ما يعنى أنَّ واجبَ اليوم التالى فى الشام يبدأُ من الانقطاع عن كلِّ الأطراف، وتسييج الخريطة بتفاهُماتٍ وطنيَّة تنظرُ لشرُكاء الهُويَّة على قدم المساواة، وتنقطعُ عن حُلفاء الهَوَى وأعدائه بالدرجة نفسِها من الحسم والمجاهرة.
الأسابيعُ والشهورُ المُقبلة ستكشفُ ملامحَ التجربة، وتُرسِى الأُسُسَ لِمَا بعدَها من سنواتٍ. ليس شرطًا أن يَرِثَ الثوَّارُ أعداءهم، ولا أنْ يَحلَّ السلاح المشبوه بديلاً عن سابقِه المُنحرِف. المُصالحةُ احتياجٌ لا رفاهية، والاحتواء يتعيَّن أنْ يَنضَبِط بأعراف مُجرَّدة، وعلى مُرتكزاتٍ صِحيَّة نظيفة.
إنْ تأسَّس مجلسٌ انتقالىٌّ يجبُ أن يَضُمَّ جميعَ مُكوِّنات الداخل دون إلغاءٍ أو استبعاد، وإن شُرِعَ فى كتابة دستور فلا يَصحُّ أن تنقطع العمليَّةُ عن الخبرات السابقة للدولة وذخيرتها القانونية، ولا أن تُفرَزَ بالأيديولوجيا والعِرقِ والميول، ولا أن تتخطَّى ملايين المطرودين فى المنافى الاضطرارية والاختيارية، وبكلِّ انتماءاتهم وأفكارهم عن الوطن وشكله المأمول.
يُمكِنُ فَرضُ رؤيةٍ على غيرها قطعًا؛ بالبندقية أمْ بزَخْم الشارع واندفاعته، لكنَّ هذا لن يُوفِّر القاعدةَ الراسخةَ لاستنهاض الهِمَم جميعًا، أو مُداوة أمراض الماضى، وضمان ألَّا تتكرَّر عَدوَاها وانتكاساتُها. مطاردةُ إيران لن تكون حَلًّا لخُصومها، ومطاردةُ النظام السابق أيضًا.
انقلبَتْ الشيعيَّةُ المُسلَّحة وبالاً على أعدائها، ولا عِظةَ هُنا إلَّا أنْ يتجنَّب مُتصدِّرو المشهدَ السورىَّ الوقوعَ فى ذات المحظور. ثبَتَ أنه يُمكن أن تحترِقَ ولو لم تَكبِشْ النارَ؛ فقد أشعلَها السنوار واحترقَ فيها نصر الله وهنيَّة ونفوذ الجمهورية الإسلامية، وبشَّار الأسد نفسه.
إبقاءُ رابطة الميليشيا مع الرُّعاة والمُوجِّهين من الخارج سيُشرِكُها فى فواتيرهم، ولو لم تَخُضْ مَعارِكَهم. نقضَتْ إسرائيلُ اتفاقيَّةَ «فضّ الاشتباك»، ووسَّعتْ حضورَها على الأرض، ولم يَكُن مَوقفًا من حافظ الأسد فى قبره، بقدر ما كان عُدوانًا صريحًا على سوريا. وما فى الجنوب لا يختلفُ عن الشمال، كما لا يشفعُ الهَوَى فى إدانة احتلالٍ وقَبول غيره.
نجحَ «الجولانى» فيما أخفقَ فيه «بشَّار». احتوى التمرُّدَ عليه قبل شهور، واتَّخذه وقودًا لإطلاق عمليَّةٍ مَكَّنَتْه من السيطرة على البلدِ بكاملِه. فى الظاهر فاز سُورىُّ وخسِرَ آخر، وفى الجوهر تُرتِّبُ المشاريعُ الإقليميَّةُ المُتصارعةُ أوراقَها على حساب البلد وساكنيه.
ذهبَ الطبيبُ السياسىُّ إلى البَتر من دون حاجةٍ، وانحاز الطبيبُ الإرهابىُّ للعِلاج على خلاف بنيَتِه الذهنيّة، وما صّلُحَ هكذا قد لا يستقيمُ لو تبدَّلَتْ الأدوار، أو طمعَ بطلُ اللحظة فى انتحال الصورة الضِدِّ بما فيها من مُغريات، بحثًا عن البطولة الدائمة. أثمَنُ ما يُمكِنُ أنْ يُقدِّمُه «الشَّرعُ» لوَطنِه أنْ يُفكِّك ميليشياته، ويدمِجَ عناصرَها فى هياكل الدولة، ثمَّ يتنحَّى عن المشهد.
أمَّا أسوأُ ما يُمكِنُه السَّير إليه؛ فأنْ يضعَ نفسَه فوق تيَّاره ودولته، ووقتَها سيكونُ على الشارع التصدِّى له عاجلاً بالأساليب المُتاحة، أكانت ثوريَّةً أم سياسيَّةً بحسب الظروف، وإلَّا فعَليهم الانتظار لخَوضِ صِدامٍ مُؤجَّلٍ مع طبيبٍ يفتقدُ مهارةَ الطِّب، ولا يُحسِنُ صَنعةَ السياسة، أىْ مع نُسخةٍ أردأُ وأشدُّ سُوءًا من الدكتور بشَّار الأسد.