النص المخطوط فرصة للقارئ للولوج إلى العالم الإبداعى للمؤلف فى حميمياته من خلال مسودته الأولى، قبل تنقيحاته وملاحظاته والرسومات التى يضعها على الهامش، هو بمثابة مصادر للعمل الإبداعى، وفى حالة الأديب العالمى نجيب محفوظ يبدو المخطوط أو المسودة أسلوب وملامح مَشغلِه، وكذلك المفكرة التى يصوغ فيها أفكاره وتجاربه وأحلامه، فالكتابة عند أديب نوبل كانت حياته، ووسيلته التى يجدد بها شغفه.
كتب نجيب محفوظ فى كل شىء بدءا بالفلسفة التى درسها، وصولا إلى الرواية التى عظُم بها وعظمت به، وصولا إلى المقالات الصحفية التى تميزت بالاقتضاب، والحكمة، والبساطة، والتى كانت دائما محورها الإنسان وحقوقه، وواجباته، وعلاقته بالعالم، وطبعا مصر أولا وأخيرا، وما قبل الأول، وما بعد الأخير، ورغم أنه لم يتميز فى أعمدته الصحفية مثل سرده القصصى والروائى لكنها تبقى وسيلة من وسائل البوح والتعبير عن صاحب نوبل، نفهم منها طبيعة رؤيته للعالم من حوله، وبالقضايا وبالأحداث التى ربما لم يصغها فى عوالمه الإبداعية.
وبين أيدينا الآن صورة لمخطوط نادر بخط يد الأديب العالمى نجيب محفوظ، حصلت «اليوم السابع» عليه من ابنته الفاضلة أم كلثوم، ربما يكون مخطوطا لمقال ربما نشره محفوظ فى حياته لكن لم يتسن لنا الحصول على وثيقة تؤكد ذلك، فيما أكدت ابنته أم كلثوم أنه مخطوط غير منشور، ولم يخيل إلى بعض من المقربين لنجيب محفوظ الذى اقتربوا لسنوات من عوالمه أنهم قرأوه من قبل، كذلك لم نعرف بالتحديد التاريخ الفعلى لكتابة هذا المخطوط، لكن بالتدقيق فيما كتبه، يبدو أنه كان بعد وقوع زلزال 1992، إذ يتحدث فيه صاحب «الثلاثية» عن واقعة الزلزال.
ويقول نص المسودة.. فى اليوم الغائم تحلو إشراقة الشمس ولو كانت لبضع دقائق. وقد كنا من الزلزال وتوابعه، وأقوال الخبراء والعلماء، وضحاياه من الأشياء والبشر، كنا من ذلك كله فى يوم غائم حتى سمعنا خطاب السيد رئيس الجمهورية أمام اجتماع مجلسى الشعب والشورى حقا تشتد الحاجة إلى الحوار وسماع رأى الآخرين فى أعقاب الكوارث، فما بالك إذا كانت الكارثة ما زالت مستمرة وكان المتكلم المسؤول الأول فى الدولة.
وكان تعاملى مع الخطاب تعاملا ذاتيا شخصيا، فلا هو بتعامل الناقد أو المؤرخ أو الكاتب إنه تعامل مواطن عانى من الأحداث - عانى - وتطلع بكل قوته إلى نقطة ما قبل ريقه. حقا إلى متطلع إلى معرفة الحقيقة مهما تكن قاسية، ولكنى متطلع أيضا إلى قطرة ماء أو شعاع أمل، وقد سمعت إلى الخطاب ككل وتركته بلا تخطيط أو دراسة، ولا مراجعة ولا تقييد ملاحظات تركته على علاته، ثم رجعت إلى نفسى لأرى ما تبقى بها منه. ولعل فى ذلك امتحانها ولما يهمها ولما تحبه وتوده، ولما يستأثر باهتمامها أكثر من عداه.
وجاءت النقاط تترى بلا ترتيب ولا إعمال فكر، ومن شدة الضيق بما هو يسرى اختلطت نفسى بالكلمات الطيبة الباعثة للأمل المنشطة لإرادة الحياة.
سرنى أن يعلن أن اعتمادنا فى نهضتنا على السلام وحسن العلاقات مع الدول، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا.
سرنى أن يعلن أنه رغم جميع ما مر بنا فإن التضخم هبط إلى حوالى النصف، وأن معدل التنمية فاق لأول مرة معدل التزايد السكانى. سرنى أن أسمع ما يمكن أن نعده استفادة حقيقية من درس الزلزال خلص إلينا فى شكل تشدد فى عقوبة أى منحرف ومراقبة جادة للعمل، وإنشاء مراكز للاستعداد للكوارث. سرنى أن نكون موضع تقدير وعطف بين الأشقاء والأصدقاء من مختلف بلاد العالم. سرنى موقفه الحازم من الإرهاب والإرهابيين وبأنه لن يسمح للإرهاب بأن يخرب اقتصادنا ولا أن يمس وحدتنا الوطنية.
سرنى ما يطلبه من مجلس الشعب فى دورته الجديدة من تشريعات تعمل حقا على تطويرنا وإزالة آثار الحكم الشمولى وتوابعه فى نفوسنا.
وصممت على المكوث فى وقت الذكريات الجميلة إلى حين وأن أؤجل ما عدا ذلك إلى المستقبل، اسأل الله الهداية والنور.
وبالنظر إلى المخطوط السابق، نجد أنه جاء بخط واضح وطريقة نجيب محفوظ العادية فى الكتابة، أى أنه كتبه قبل أن يتعرض لحادث محاولة الاغتيال الذى تعرض له فى 14 أكتوبر سنة 1994، إذ جعله الحادث غير قادر على استخدام يده فى الكتابة، ويظهر وكأنه تمرين أو محاولة لكتابة مقال عن الأحداث التى شهدتها تلك السنوات، وهو ما يتوافق مع رأى الدكتور حسين حمودة رئيس تحرير دورية نجيب محفوظ الأدبية، بأن تلك الكتابات تعود إلى فترة عندما كان خطه جميلا وواضحا ومنمقا - يقصد قبل تعرضه لمحاولة الاغتيال - تنتمى فى أغلبها إلى ما كان يحرص عليه دائما من تدريبات على اللغة، وحرص على التعمق فى أسرارها، وقد كان هذا كله جزء من «ورشة كتابة داخلية» يقيمها لنفسه.
ولعل المخطوط الذى بين أيدينا كان مسودة أولية، وضع فيها نجيب رؤيته، وهو ما يظهر من تكرار كلمة «عانى» فى المقال، أو ربما قصد التأكيد على معاناة المصريين خلال تلك الفترة، ويبدو أن محفوظ حتى فى مقالاته لا يخرج كثيرا عن وسيلته التعبيرية الأقرب إليه وهى الفن الروائى، وهو ما يظهر فى اختياره لعنوان المقال «أشياء جميلة فى الذاكرة» الذى يتماس إلى حد ما مع معنى عناوين لأعمال أخرى له مثل «صدى النسيان» و«أصداء السيرة الذاتية»، كذلك الكتابة المشهدية فى بداية المخطوط، ولعل من سمات المقال البارزة أيضا، حضور شخصية نجيب الروائى فيها بوضوح، فلم يرتكن إلى استخدام أفعال ومصطلحات عامة، بل استخدم أفعال مثل «سرنى» وهو ما يتشابه مع بنائه السردى فى أعماله القصصية الأخيرة، والتى كتبها فى هذه الفترة مثل «الأصداء» أو «أحلام فترة النقاهة»، وكذلك كونها لا تخلو من مرونة الشكل الروائى التى تسمح بتأمل الواقع، الذى مارسه نجيب فى كل أعماله متأملا معنى الإنسان والسلطة والعدالة، ولعلها أيضا تلقى ضوءا كافيا على أسباب انتقال أديب نوبل من شكل روائى إلى آخر طوال مسيرته.
المخطوط أيضا فى تناوله، كمعظم مقالات «محفوظ» التى كتبها بهدوء وتريث، فى طريقة تتقارب كثيرا مع طريقته الشخصية فى الحديث مع الآخرين، كما أقر من تقربوا منه وعاشروه فى حياته جيدا، فصاحب نوبل حتى فى كتاباته التى ربما لم ينشرها كان حريصا على عدم الخوض فى مسألة السياسة وأمور السلطة بشكل صدامى، إذ أصر أن حديثه عما جاء فى خطاب الرئيس أو جلسات مجلس الشعب ليس من موضع السياسى أو الناقد، وكانت لغة الخطاب ربما متسقة مع كل أقوال نجيب محفوظ، الذى رفض أن يضع نفسه فى صف السلطة أو ضدها، لكنه تحدث كمواطن يتمنى أن يرى بلده فى حال أفضل، تحقق النمو، بل ورفض أيضا مبدأ التنظير، فلم يتحدث بصيغة الناصح، بل عبر عن سروره ببعض مما جاء فى تعامل الرئاسة والبرلمان بعد الزلزال فقط.
محفوظ فى هذا المخطوط أيضا، وفى حديثه عن الوضع الاقتصادى وتطلعه لمستقبل أفضل، يبدو مشدودا إلى الأفكار التطورية، التى يرى فيها المستقبل، ويشتقه من تكامل المعرفة والديمقراطية، وظهر وكأنه يحلم بالمدينة الفاضلة التى طالما كانت محورا رئيسيا فى كثير من نصوصه الأخيرة، وحاول محفوظ فى النص أن يكون أكثر تفاؤلا بالواقع المعاش الذى تصوغه السلطة كما تشاء، ربما هو أيضا فى الحقيقة يحذر من الحلم بالمدينة الفاضلة على حساب الواقع حتى لا نكون عرضة لمن يتاجرون بالأحلام، راجعا بالذكريات إلى الوراء وأحلامه عن بلد عاش أهله حياة بائسة ومحطمة من ويل الحروب والأزمات الطاحنة، ولعل أيضا يظهر فيه إيمانه الذى يستمد منه تفاؤله بالمستقبل كترياق ضد قتامة الحاضر، فهو القائل: «إنك إن نظرت إلى الحاضر فى أى لحظة فستجد شتى أنواع المآسى تحيط بك، أما إذا نظرت إلى الحاضر من منظور تاريخى فستجد أن البشرية قد قطعت شوطا كبيرا فى طريق التقدم.
نجيب محفوظ، يبدو كذلك أنه فطن مبكرا أنه ليس كاتب مقالات، فرغم أنه بدأ بكتابة المقالات فى الفلسفة والأدب فى عدة مجلات فى أوائل الثلاثينيات، حسبما صرح بنفسه فى حوار سابق مع الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور، لكنه اهتدى سريعا إلى وسيلته التعبيرية المفضلة وكانت القصة والرواية، فاقتصد جهده فى الكتابة الروائية والقصصية، ولذلك نجد أن إبداعه خارج نطاق الرواية والقصة لم يكن على نفس المستوى، وكما يتبين من قراءة النص السابق إلى أن سرد محفوظ بعيدا عن الكاتبة الإبداعية يبدو جافا متخشبا يفتقر إلى المرونة، على عكس سرده الروائى الفريد الذى يتلوّن بما يلائم رسم الشخصية والأحداث، لكن بالتأكيد تحمل نفس سمات سرده القصصى القائم على طبيعة مقتصدة، وأميل إلى التجريب فى بعض الأحيان، وكأنه يستكشف فيها أدوات أخرى يمكن الوقوف عليها فى نثره الإبداعى، بالتأكيد تظل هذه الكتابات جديرة للتأمل فى شخصية محفوظ الفريدة، وأفكاره وأسلوبه كتابته، لكنها تأتى فى المرتبة الثانية من حيث الأهمية.
عدد اليوم السابع
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة