كان لسوريا جيشٌ ولم يَعُد. وذات يومٍ كان واحدًا من أقوى جيوش المنطقة، وخاض حربًا شريفةً مع الاحتلال بمُوازاة الجبهة المصرية الهادرة فى أكتوبر 1973. صحيحٌ أنه لم يُوَفَّق فى استعادة الجولان؛ لكنه لم يخسر عقيدته. الخسارةُ حَلَّت به لاحقًا، عندما أُعِيْدَت هندستُه ليكون مُؤسَّسة النظامِ لا الدولة، وعندما استُعِيْض عنه بحُلفاء خارجيِّين، صاروا أكثر حضورًا فى المشهد منه، ومُتفوِّقين عليه فى القُدرة، وفى إمكانية الوصول إلى صانع القرار.
خطيئةُ العائلة الأسَدِيَّة أنها ألحقَتْ الدولةَ بالفرد، واختزلَتْها فى صورته حصرًا. كان التناقُض خَفيًّا فى زمن «حافظ»؛ لأنه كان ماهرًا فى المُناورة بين غابةٍ من التقاطُعات الدولية، وقادرًا على التلطِّى وراء ما تبقَّى من رصيد «البعث» وخطابه القومىِّ، كما مَزَجَ باحتيالٍ ذكىٍّ بين العروبة والمُمانَعة، بينما كانت الظروفُ المُحيطةُ مُواتيةً تمامًا. لكنَّ الابن لم يَمتلِك مقدرةَ الأب وحنكتَه، والسياقَ لم يَعُد مثلما كان.
الصاعدون الجُدد لا يملكون مهارةَ الأسد الكبير، ولا تغيبُ عنهم خِفَّةُ الأسد الصغير. وإذ ينطلقون من مظالمَ حقيقيَّةٍ لا يُمكن إنكارُها؛ فمن الصعب القول إنهم يُمثِّلون سوريا الجامعة، أو يضعونها على رأس أولويَّاتهم. بينهم مُواطنون طحنتهم الضغوط، وفيهم مُقاتلون استُورِدوا من الخارج تحت راياتٍ عقائدية شتَّى، والوظيفيَّةُ حاضرةٌ فى مشهد انتصارهم، بحيث لا يُمكن الحديث راهنًا عن مشروعٍ وطنىٍّ صافٍ؛ ولو صدقَتْ النوايا.
تناقُض اللحظة لم يَعُد بين نظامٍ ساقطٍ وآخر صاعد؛ بل بين دولةٍ عتيقة ووافدين من خارج ثقافة الدُّوَل وفلسفتها. والتوفيقُ بين المسارين يتطلَّبُ نُزولَ أحدهما للآخر، أو إنزاله بالترغيب والترهيب. وهكذا يصبحُ تمتين السياق الجديد، مرهونًا بكَسر ما تبقَّى من القديم. أى بتجريد سوريا من أُصولها المُؤسَّسية، ومخزونها المُتاح من الكوادر والخبرات، وإعادتها إلى حالةٍ بدائيَّةٍ يتيسَّرُ فيها البناء من الصفر، ولا تُعود التقاليدُ الراسخةُ عائقًا أمام الاستحداث الأُصولىِّ المطلوب.
سُرعةُ السقوط أكَّدت هشاشةَ النظام الأسدىِّ؛ لكنها أوحَتْ بغياب الدافعيَّة لدى المُؤسَّسات الصُّلبة وعناصرها، وحملَتْ بين إشاراتها ما يَنُمُّ عن توافقاتٍ تخلَّى بمُوجَبِها بعضُ القادة عن مواقعهم. يُقالُ إنَّ بعضَ الأطراف استغلَّت نفوذَها لدى العسكريين، ويتردَّدُ أنهم تواصلوا مع الفصائل المُسلَّحة، أو قرّروا بشكلٍ مُنفرد السماح للمَوجة العاتية بالعبور. فى كل الأحوال، أُزِيْحَ النظامُ وبَقِيَت الدولةُ نظريًّا، وإذا كانت الغايةُ المُضمَرة أن يُعاد إنتاج سوريا على وجهٍ مُغاير تمامًا؛ فلن يكون الميراثُ الدولتىُّ مطلوبًا بأيَّة صورةٍ من الصور.
لم يَستفِدْ بشَّار الأسد من دروس الربيع العربى؛ لكنَّ الميليشيات السُّنيَّة تبدو كما لو أنها قرأت العِبَر واستوعبتها، أو قدَّم لها الرُعاةُ خُلاصةَ التجارب السابقة فى كبسولةٍ مُركَّزة. لقد أخفق الإسلاميِّون على كلِّ الجبهات تقريبًا. غيابُ الجيش النظامىِّ المُنضبط عطَّل مُخطَّط السيطرة فى ليبيا، وحضورُه الضعيف عقَّد مُشكلةَ اليمن، وانقسامُه فى السودان أنتج حربًا أهليَّةً ستطحَنُ عظامَ الإخوان مهما حاولوا القفزَ عليها. تونس أفلتت ببيئةٍ مدنيّة ناضجة نسبيًّا، ومصر أنقذتها مُؤسَّسةٌ عسكريَّة عريقة، وصلبة، وصافيةٌ فى مِهنيَّتها ومُعتقَدِها الوطنىِّ.
تُصبحُ اللعبةُ أسهلَ إذا اخُتزِلت أطرافُها، أو تقلَّص لاعبوها إلى الحدِّ الأدنى. وهيئة تحرير الشام تخوضُ الجولةَ بظهرٍ عارٍ وملامح مُشوَّهة. لا تحتكرُ السلاح وحدَها، ويُلاحقها ماضيها الإرهابى الأسود، ولن تكون قادرةً على إقناع المدنيِّين بوجهها الجديد. أو بمعنى آخر، البحر من ورائها والنار من أمامها؛ إذ من ناحيةٍ لا سيطرةَ لها على بقيَّة الميليشيات المُنافسة، ومن الأُخرى عليها استحقاقاتٌ تجاه الشارع الغاضب، والملايين الذين تضخَّمت أحلامُهم فى سجونٍ ماديَّةٍ قاسية، أو وراء ضلوعٍ هشَّمَها القمعُ والخوف، وقد خسروا آمالَهم العريضة تحت أحذية النظام الثقيلة سابقًا، ولن يُفرِّطوا فيها مَرَّتين.
قد لا يكونُ الجيشُ قادرًا على الإنقاذ الآن، ويحتاجُ بالضرورة وقتًا طويلاً للتعافى، وترميم بِنيَتِه واستعادة صفاء العقيدة وجاهزيَّة القتال. لكنه إن كان هشًّا اليوم، والأضعفَ بين ميليشياتٍ جرّارةٍ وجمهورٍ هادر؛ فقد يكونُ الأقوى والأقدرَ على الحَسْم لاحقًا، عندما تتناقَضُ الرُّؤى والتطلُّعات، ويصطدمُ الأُصوليِّون ببعضِهم، أو تدورُ الدائرةُ الطبيعيَّةُ عليهم، ويخرجُ الناس ثائرين على الهندسة الجديدة، أو رافضين لسرقة الثورة والدولة منهم لصالحِ مشروعٍ انتحالىٍّ «فوق وطنى»، تتخطَّفه الوكالة أو الارتداد بالاجتماع الإنسانىِّ فى عكس الزمن.
يعرفُ «الجولانى» قَطعًا أنَّ الظروفَ خدمته بأكثر مِمَّا تمنَّى؛ ولعلَّه يردُّ انتصارَه السهلَ إلى طَرفٍ عاقلٍ، قرَّر فجأةً أن يَكسِرَ حلقةَ الحرب الأهليَّة، وأخرج العسكريِّين من ميدان القتال دون رصاصةٍ واحدة. من المحطَّة الأُولى فى «حلب» كانت المواقعُ تُخلَى، وتُترَكُ الأسلحةُ والمُعَدَّات فى عَرض الطريق. وبعيدًا من الأسباب؛ فالثابتُ أنَّ الضبَّاطَ والجنود لم يُقاتلوا أصلاً، وكان بمَقدورِهم أنْ يُصعّبوا المهمَّة على «جراد إدلب» لو أرادوا، أو أن يُبقوا الأُمورَ مُعلَّقةً لحين أن تَحسِمَها مُداولاتُ السياسة فى الخارج.
ومِمَّا فات؛ فالدرسُ الأوَّل أنه لا سبيلَ للتعايُش مع الجيش، إذ مثلما فرَّط فى بشَّار يُمكن أن يُفرِّط فيهم، وتلك بذرةٌ أقربُ لفكرة الوطنية رغم كلِّ المُنغِّصات. لقد كانت تركيبتُه مُعقَّدةً للغاية، بحيث لا يَسهُل وَصفُه بالطائفيَّة المَحضة، ولا بالعائليَّة وشبكات المصالح والانتفاع فحسب، بمعنى أنه كان خليطًا من الحسابات المُعقَّدة؛ لكنها تعلَّقت جميعًا بشخص الرئيس، وإذا تغيَّر المذهبُ فلن يصيرَ المُؤمِنُ مُلحِدًا؛ بل على الأرجح سيعودُ لأصلِ العقيدة. أى أنَّ المسافة بين سوريا و«جيش بشَّار» كما يَصفونه بالغرض أو التبسيط، أقربُ مِمَّا هى عليه مع جيوش الميليشيات، ويُمكن أن يعودَ الأوَّلُ وَطنيًّا، إنما يصعُبُ أن تخرُجَ الثانيةُ من دِينِها العصابىِّ إلى دِيْن الوطن.
ربما لهذا لم يتحدَّث القائدُ الجديدُ عن الجيش تقريبًا، باستثناء ورقةٍ وحيدةٍ أصدرَها بشأن العفو عن المُجنَّدين تحت الخدمةِ الإلزاميَّة. الضبَّاطُ بكلِّ مُستوياتهم مُبعَدون على ما يبدو عن النظر، وعن ورشةِ المُصالحة والمُداواة التى لا يُمكنُ أن يبدأ مسارٌ سليمٌ من دونها؛ ناهيك عن أن يكون قويمًا وآمنًا. جاء الجولانى، أو أحمد حسين الشرع، بُمقاتليه من الشمال، واصطحب شُرطَتَه معه، وبدأ تنظيمَ المجال العام فى العاصمة وبقيّة المُدن برجاله حصرًا، حتى بدا أنه يُجرِى على الشرطة المدنيَّة ما أجراه على المُؤسَّسة العسكريَّة.
إشارتُه المُبكِّرة إلى بقاء «الجلالى» وحكومتِه فى مَوقع المسؤولية، حملَتْ شيئًا من الطمأنة بشأن الانقطاع عن مسار الثأر والتشَفِّى، وعن نزقِ التمرُّد الشامل ونَقضِ البناء كاملاً. لكنها تبدَّدت سريعًا عندما بدأ العملَ على إحلال سُلطةٍ تنفيذيَّة بديلة، وانتدَبَ لها شابًا من الحظيرة غير المُحارِبة لدى هيئة تحرير الشام، لا يَملِكُ من الكفاءة والخبرة ما يُؤهِّلُه لإدارة بلدٍ على شفا الضياع. أصدرَ بيانًا منسوبًا إلى ما أسماه «المجلس الوطنى الانتقالى»، دون إعلان هُويَّة أعضائه وخلفيَّاتهم، ولا طريقة اختيارهم، وبرنامج العمل وضوابطه، وحدود الانفتاح على بقيَّة المُكوِّنات السياسيَّة والمدنيَّة.
يَسرَحُ الأُصوليِّون فى شرايين الدولة ببطءٍ كما يتسرَّب السمُّ إلى الدم. ولو صَدَقَتْ النوايا؛ فإنَّ البلد لم يعدَمْ الصالحين من تيَّاراتٍ شتَّى، واجهوا نظامَ العائلة الأسديَّة لنصف قرنٍ من مُنطلقاتٍ أيديولوجيَّةٍ مُتنوِّعة، وعانَوا الإبعادَ والتنكيل أكثرَ من غيرهم، وربما يكونون أقدرَ على التصدِّى لواجبات المرحلة، وأقربَ إلى التمثيل الوطنىِّ المُتكافئ للبيئات والأفكار الشاميَّة أكثر من غيرهم. لم يُدْعَ أحدٌ منهم لحوارٍ، ولا أٌضيف لسُلطة الانتقال، ويبدو أنهم لن يكونوا حاضرين بنسبةٍ وازنة فى الحكومة الجديدة، أو لن يُمَثَّلوا فيها أصلاً.
لا يُمكن استبعاد كلِّ مَنْ تنفَّس هواء السلطة القديمة من الحاضر والمُستقبل، وخزَّان التكنوقراط لا يُحسَب على راحلٍ أو وافدٍ، كما يجبُ ألا يُلَوَّن بألوانٍ سابقةٍ أو لاحقة.
طائفةُ بشَّار العَلَويَّة لا تتجاوزُ عُشْرَ السكَّان، ومع افتراضِ أنَّ حصَّةً مَثيلةً من بقيَّة الطوائف خدمَتْ النظامَ وتربَّحت منه؛ فإنَّ أربعةَ أخماس السوريِّين ليسوا من العَهد البائد، ولا شُبهات عليهم فى الوطنيَّة وصدق الانحياز، بل لعلَّهم يتقدّمون على «الجولانى» نفسه، أقلّه من زاوية أنه مُستَتْبَعٌ من أطرافٍ خارجيَّة، بينما لا يَعرِفُ أغلبُهم إلَّا بلدَه وأهلَه فحسب. صحيحٌ أنَّ الحُكم قد يكون مُبكِّرًا بعض الشىء؛ إنما المُقدِّمات تُوحى بالنتائج، والسوريِّون أحوجُ ما يكونون للإشارات الإيجابيَّة اليومَ قبل الغد.
حتى اللحظة؛ يبدو أنَّ الخصومةَ مع الدولة، من حيث كونها غلافًا جامعًا وبِنيةً مُؤسَّسية مُخطَّطَةً على مُرتكَزٍ وطنىٍّ عريضٍ وتصالُحىٍّ. المسألةُ تتجاوزُ «آل الأسد» وميراثَهم، وتقع مُباشرةً فى نطاقِ الثأر العام، والبحث عن كيانيَّةٍ جديدةٍ، ما يقودُ حتمًا إلى صِدامٍ مُرجَأ مع الشارع، وإلى نزاعاتٍ بينيّةٍ ستَدخلُها الفصائل وُجوبًا. والقائدُ التائبُ عن الإرهاب حديثًا، يبدو أنه يتحضَّرُ للمرحلة، لا بتقوية صفوفِه؛ إنما بإضعاف المُناوئين المُحتَمَلِين.
على هذا المعنى؛ يُفهَمُ مَوقفُ الصمت المُطبِق إزاءَ المُمارسات الإسرائيليَّة البريَّة جَنوبًا، والجويَّة فى عُموم الجُغرافيا السورية، بما فيها تَمَركُزات الفصائل ونطاقات عملِها. لم يتحدَّث «الجولانى» أو أىٌّ من مُساعديه عن العدوان، ولا عن الدولة باعتبارها كيانًا واحدًا فى المكان والزمان والبشر والحجر.. والغالبُ أنه مَمنوعٌ من رُعاتِه، بمُوجَب تفاهماتٍ تقضى بألَّا يكون الصاعدون الجُددُ عاملَ تهديدٍ للدولة العِبريَّة، ولا منصّةً تصويبٍ عليها، أو حائلاً يمنعُها من تأمين مصالحها التكتيكيَّة والاستراتيجية.
استُغِلّ الظرفُ الأخير من جانب نتنياهو؛ للإجهاز على ما تبقَّى من المُؤسَّسة العسكريَّة السوريَّة. ضُرِبَتْ المَرافقُ الحيويَّة فى أنحاء البلاد، القواعد والمطارات ومرابض الطائرات، وحدات الدفاع الجوىِّ ومراكز البحث ومخازن الأسلحة واللوجستيات. تقدَّم جيشُ الاحتلال ليقتطِعَ ما يُقاربُ مساحةَ الجولان المُحتلَّة، واقترب إلى ما دون 25 كيلو مترًا من أطراف العاصمة. وأخيرًا أجهزَ على الأسطول كاملاً فى مَرافئه، ولم تَعُد لسوريا يَدٌ أو رِجلٌ تمدّهما خارجًا، أو تفردهما حتى داخل حدودِها الشرعيَّة.
سرديَّةُ تلّ أبيب أنها تَتَّقِى شَرَّ الفصائل الأُصوليَّة بتَوسِعَة المنطقة العازلة، وتَحولُ بينها وامتلاك قُدراتِ تسليحٍ مُتقدِّمة. أمَّا التناقُضُ فيَنبعُ من أنها تحرَّكت بعد اتصالاتٍ لم تَكُن خَفيَّةً أو مُنكَرة، تردَّد فيها أنَّ قناةً فُتِحَتْ بينهما من خلال الرُّعاة الإقليميِّين والوسيط الأمريكى، ورسَّمَتْ حدودَ العلاقة فى المدى المنظور. تردَّدت تصريحاتٌ من الجيش الحُرِّ والهيئة نفسِها عن الانفتاح على السلام، وأكَّدت المُمارساتُ أنهم يهتمّون بتتبُّع النظام وحُلفائه فى الشيعيَّة المُسلَّحة، بل وشُركاء الوطن من الكُرد وغيرهم، بأكثر من اهتمامهم بأىِّ أمرٍ آخر؛ ولو كان حدود الدولة وسيادتها وسلامة أُصولها المادية والمعنوية.
تتلاقى المصالحُ على إفناء الجيش، وأخذِه بجَريرة العائلة الأسديَّة وسلوكِها. وإسرائيلُ التى كانت قادرةً على ترويضه فى ولاية بشَّار، لا شكَّ فى أنها أقدرُ على التعامل مع أيّة نزوةٍ مُحتمَلةٍ تحت سُلطةٍ أحدث وأكثر خِفَّة، وأقلّ اقتدارًا على الخصومات الدولية أو طلبًا لها. ما يعنى أنَّ دعايةَ التقدُّمِ بحثًا عن الأمنِ لا يُمكِنُ أن تكون مُقنِعةً بحال، وأنَّ ما وراء التمدُّد الصهيونىِّ أكبرُ من مسألة تعقيم الخرائط وتحجيم الجيش النظامىِّ، وقد لا تكونُ بعيدةً من الاستراتيجيَّة «البنيامينيَّة» المُعلَنَة بشأن تغيير المنطقة، وإعادة ترسيم الشرق الأوسط.
استهدافُ الجمهورية الإسلامية تحقَّق جُزئيًّا بإخراجها من سوريا، وقَطعِ خُطوطِ اتِّصالها البريَّة المُباشرة مع حزب الله. وإذا كانت الخطَّةُ ستنتقلُ بعدها لمُطاردة إيران فى بقيّة ساحاتها الرديفة، فلم يَعُد باقيًا منها على التَّمَاس القريب إلَّا الحشد الشعبىّ فى العراق. بقاءُ الجيش يَخدِمُ دمشقَ ولا يتعارضُ مع أهداف تل أبيب؛ إذ يستحيلُ على ميليشيا الجولانى أن تُراقِبَ الحدودَ وتفرِضَ سيطرتَها الكاملةَ على أكثر من 185 ألف كيلو مترٍ مُربَّع.
والمعنى؛ أنَّ التحييد قد يُرادُ منه إبقاءُ الخرائط سائلةً، وفَتحُ ثغرةٍ ليُناوِرَ منها الحرسُ الثورىُّ وفلول عصاباته السارحة فى الإقليم، أو يظلّ قادرًا على تأمين عملياتٍ محدودة لتهريب اللوجستيات، والمُقاتلين لو أراد، وبهذا تتأمَّنُ الذريعةُ لتجديد الحرب على لبنان، أو التوسُّع أكثر فى سوريا، واختصام بغداد، وربما الذهاب إلى طهران نفسها.
سوريا من دون جيشٍ ستكونُ أيسرَ وسائغةً للهَضْم. بمعنى أنَّ «هيئة تحرير الشام» بإمكانها أنْ تَقتنِصَ السُّلطةَ وتفرِضَ وُصايتَها على الجُموع، مع الاطمئنان إلى أنَّ الغضبةَ الشعبيَّة، إن وَقَعَتْ، لن تتجاوزَ الحناجر، ولن تَجِدَ إسنادًا صُلبًا. وأنها لو تورَّطتْ فى نزاعٍ مع بقيَّة الميليشيات المُنافسة؛ فلن تتقدَّم قوَّةٌ مَحليّة لاستخلاص الدولة من الطرفين، ولَعبِ دَورٍ ناظمٍ لمرحلة الثورة على الثورة. أىْ أنَّ إزاحةَ الجيش تُعزِّز مركزَها إزاءَ الجبهة المدنية حال انتفاضتها كما فعلَتْ تونس، وتُجَنِّبُها سيناريو ثورة 30 يونيو المحميّة من مُؤسِّسات الدولة كما كان فى مصر.
باختصارٍ؛ تلعَبُ حكومةُ اليمين المُتطرّف فى إسرائيل لصالح الهيئة المُتطرِّفة فى سوريا. الأُصوليَّةُ الصهيونية الجارحة لن تُحبَّ اللعبَ مع المدنيِّين، ولا غرامَ لها إلَّا بالرجعيَّة الدينيَّة وخطابها الزاعق، ونظريَّاتها المُؤسِّسة للصراع على مُرتكَزٍ عقائدىٍّ جامد. كلُّ ما أرادته أن تستبدِلَ عِمامةً بأُخرى، وأن تُحلّ فصيلاً سُنيًّا مُدجَّنًا جُزئيًّا، بديلاً عن صبغةٍ شيعيَّةٍ أفرطَتْ فى العَنتريَّة، وتجاوزت الخطوطَ الحمراء، وتلبَّسَتْها الأوهامُ حتى اعتبرتها حقيقةً قاطعة. ميليشيا الهيئة أعقلُ من ميليشيا الحَرَس، والجولانى أفضل من سُليمانى، ولتتبَدَّل الأسماءُ كيف شاءوا.
باتِّفاقٍ أو من دونه، تُمكِّنُ تلُّ أبيب للسُّلطة الجديدة فى دمشق، وترفعُ عنها الحَرَج مستقبلاً فيما يخصُّ التصدِّى لأىِّ عدوانٍ أو الردِّ عليه. تُيسِّرُ لها دَمجَ عناصرها فى المُؤسِّسة دون مقاومةٍ وتحدّيات، أو أن يكونوا بديلاً عنها بصورتِهم الحالية. تمنحُها سَرديَّةً يُمكِنُ تسويقُها على معنى البأس وإرهاب العدوِّ، وصفاء العقيدة والغايات، وأنها ليسَتْ طرفًا فى أيَّة تفاهُماتٍ مشبوهة داخل الحدود أو خارجها. تُعزِّزُ مراكِزَها الحالية بإزاحة أحد المُنافسين المُحتَمَلِين، وتُعرِّى البيئةَ من أيَّة ضمانةٍ مُؤسَّسيّة يُمكِنُ أنْ تُقاوم الفوضى، أو تمتصَّها وتُرمِّمَ تداعياتها. تقولُ للجميع إنها تخشى السياقَ الجديد؛ وما تخشاه إسرائيل بطبيعة الحال، تضعُه القواعدُ الشعبيَّةُ المُتهيِّجةُ عاطفيًّا فى مَوضِع الاحتفاء والترحيب.
يُرادُ لمستقبل سوريا أن يكونَ مُتشظّيًا، عنوانه الميليشيا لا الدولة، وتحت حماية الانقسام لا الالتئام. الهيئةُ وخصومُها فى الغرب، وقوَّات الأكراد وسُلطتهم الذاتيَّة شرقًا بحُكمِ الأمر الواقع، وأحزمة النار من الوصىِّ شمالاً ومن المُحتلِّ جنوبًا. فكرةُ الجيش الوطنىِّ تتصادَمُ مع كلِّ هذا، ولا تقبلُه، ومهما كان ضَعيفًا فلن يطولَ الوقتُ قبل أنْ يتمرَّد عليه. والحلُّ أن يُقوَّضَ وتُسلَبَ مُقدَّراته، وأن يُوضَعَ على أوِّل طريق التفكيك، أو تحويله إلى شُرطىِّ حِراسة.
ورشةٌ واسعةٌ تُدار على أُصول الدولة، إضعافًا لها لصالح ورثَتِها الجُدد. ورشةٌ للهدم والبناء، وليس للترميم أو الإصلاح. لا يُكتَفَى بإحلال أُصوليَّةٍ سُنيَّة بدلاً من سابقةٍ شيعيَّة؛ إنما يُفسَحُ المجالُ للجديدة أن تبنى تجربتَها الكاملة، وأن تكون خاليةً فى تأسيسِها من ثابت العداوة مع الاحتلال، أكان مُلوَّنًا بالصهيونيَّة أم العُثمانيَّة الجديدة، وبطبيعة الحال سيظلُّ خاليًا منها فى التشغيل أيضًا.
يقولُ «الجولانى» خلافَ ما يفعل، وينخدعُ كثيرون بما يتواترُ عنه من رسائل بيضاء. بشَّر بحلِّ هيئة تحرير الشام؛ لكنه ابتدأ تفكيك الجيش قبلَها. يتحدَّث عن بناء سُلطةٍ مدنيَّة مُنتخَبَة؛ لكنه يُعيِّنُ مجلسًا انتقاليًا لا يُعرَفُ أفراده، ولا لونَ فيه من خارج جماعته. يَعِدُ بالمُصالحة بين مكوِّنات الدولة؛ بينما لا يتصالحُ عليها نفسَها. وإذا كانت إسرائيلُ على عداءٍ حقيقىٍّ لتيَّارِه؛ فلن تُرتِّبَ معَه الساحةَ، أو تُقَلِّمَ أظفارَ خصومِه المُحتَمَلِين، ولو أرادت أنْ تُخلِّص سوريا من بقايا الوصاية الخارجية، إيرانيَّةً كانت أو غيرها؛ فلن تحرِمَها من جيشِها الوطنىِّ، ولن تُحوِّلَ الدولةَ إلى جُغرافيا عاريةٍ من دون سَقفٍ أو مخالب.
شرعتُ فى الكتابة بِنيَّةِ التحليل، وعند الفقرة الأخيرة داهمَتْنِى المعلومة. طيَّرت الوكالاتُ تصريحًا للجولانى، يؤكِّدُ فيه أنَّ توغَّل إسرائيل فى سوريا يجرى بالتنسيق مع هيئة تحرير الشام. وبالتبعية فإنَّ تكسيحَ الجيش وشَطبَ قُدراته الكاملة يقعان تحت اللائحة نفسِها، ولا معنى إلَّا أنَّ الميليشيا تخوضُ مع العدوِّ الأصيل حَربًا مُوحَّدةً على الدولة المُتداعية؛ فكأنها ترى المُؤسَّسات عَدوًّا أَوْلَى من الاحتلال وأخطر، وأنَّ مَصلحتَهما واحدةٌ فى كَسرِ ما تبقَّى من الأُصولِ السُّوريَّة الصُّلبة.
العداوةُ قادت السنوار ونصر الله لخِدمة إسرائيل بالطوفان وما بعده، والصداقةُ تدفعُ أحمد الشرع وعصابتَه على السكَّة ذاتها. لا خطرَ على الإقليم أكثر من الأُصوليَّات، حَمَلَتْ التوراةَ أم تمسَّحَتْ زُورًا بالقرآن. ولا أملَ إلا بالخروج من أسرِها جميعًا، وما أثقُ فيه الآن ومن عُمق المأساة، أنَّ سوريا لن تستكين، ولن تكونَ ثَورتُها من فصلٍ واحدٍ أبدًا.