نظم المتحف المصري بالتحرير، معرضًا مؤقتًا عن صناعة العطور قديمًا، تحت عنوان "عطور مصر القديمة عبر العصور"، بالتعاون مع جامعة بول ڤاليري مونبليه 3 في فرنسا والمعمل المتميز لابكس أرشيمد ومؤسسة اللغة الهيروغليفية هيرولكسيك، والذي يهدف إلى إلقاء الضوء على صناعة العطور في مصر القديمة واستخداماتها وتركيباتها المختلفة والطقوس المرتبطة بها من خلال عرض مجموعة من القطع الأثرية المرتبطة بالعطور والتي تم اختيارها من مقتنيات المتحف المصري بالتحرير ومتحف الفن الإسلامي بباب الخلق والمتحف القبطي بمصر القديمة، وفي ضوء ذلك نستعرض لكم كيف صنع المصريون القدماء العطر.
ولم تعرف على وجه التحديد البدايات الأولى لاكتشاف العطور، ولعلها كانت قديمة جدًا ومتزامنة مع اكتشاف الإنسان القديم للنار، إن أنتبه إليها من خلال عملية اشتعال بعض أنواع الخشب الذي يفرز صمغاً يعبق الجو بالروائح الزكية حال اشتعاله، ولاشك في أن تكون من هنا بداية اكتشاف العطور التي صارت جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان، وذلك حسب ما جاء في كتاب النباتات الطبية في المدونات الآثارية والمراجع الإسلامية والمصادر المعاصرة من تأليف مظفر أحمد داود الموصلي.
ولعل المصطلح اللاتيني (Perfume) الذي يعني العطر أو الطيب بالإنكليزية يتكون من مقطعين Per تعني (بواسطة) و Fume تعني (دخان) وهي كلمة تشير إلى النواتج المتجمعة من عمليات حرق الأخشاب مثل البخور التي توجد فيها مواد عطرية تظهر رائحتها حال احتراقها، لذلك يمكن القول أن العطور دخلت مباشرة في حياة الإنسان ولاسيما في المعتقدات الدينية فضلاً عن الاستخدامات الأخرى.
ودخلت العطور في حضارة بلاد وادي النيل بصورة مباشرة؛ ويعد العنبر من العطور حيث كان يختص بالتعطر منه الفراعنة وأسرهم فحسب في الوقت الذي حرم على العامة وأصدر حكم بالإعدام على من يتعطر به من غير البيت الفرعوني.
ووصل استعمال العطور إلى أعلى مستوى عند المصريين في طقوس العبادة إذ استعملها الكهنة في مراسيمهم الدينية، وكانت تجلب العطور والصمغ العربي من الجزيرة العربية لكي، تحرق في المعابد المصرية، كما كان المصريون يحرقون العطور أمام إله الشمس (رع)، وكانوا لا يقدمون الذبائح من دون استعمال البخور، التي تعد جزءاً مهما من العطور، واستعملت العطور من قبل الكهنة في عمليات التحنيط، الخاصة بحفظ جثث موتاهم من التلف والفساد وصنعوا منها مراهم خاصة، لاستعمالها في عملية التحنيط، ويتم رش المومياء بالعطور المختلقة، ولابد من الإشارة إلى أن المصريين كانوا يصنعون عطراً خاصاً لكل مومياء.
واشتهر المصريون القدماء بحرصهم على الظهور بشكل أنيق طوال الوقت، وقد أشار المؤرخ اليوناني "هيرودوت" إلى أن الملكة كليوباترا السابعة على سبيل المثال اشتهرت بصناعتها للعطور، وكانت أغلب عطور الفراعنة نفاذة وتعتمد على الزيوت.
المصريون القدماء عاشوا عالما غنيا بالرائحة
واجه رمسيس السادس تحديًا عندما أصبح ملكًا لمصر عام 1145 قبل الميلاد فقد كانت المهمة الأولى للفرعون الجديد هي تخليص الأرض من رائحة الأسماك والطيور وفقا لتعليمات وردت في ترنيمة كتبها رمسيس السادس عند وصوله إلى العرش.
تشير الروايات المكتوبة إلى أن سكان المدن المصرية القديمة اختبروا مجموعة واسعة من الروائح فقد استنشق المصريون القدماء روائح طهي اللحوم والبخور والأشجار والزهور وأدى الطقس الحار في مصر إلى زيادة الطلب على الزيوت المعطرة والمراهم التي تغطي الجسم برائحة لطيفة.
تقول عالمة المصريات دورا جولد سميث من جامعة فيرى ببرلين لموقع ساينس نيوز: "تُظهر المصادر المكتوبة أن المصريين القدماء عاشوا في عالم غني بحاسة الشم"، مؤكدة أن الفهم الكامل للثقافة المصرية القديمة يتطلب فحصًا شاملاً لكيفية فهم الفراعنة للروائح.
ويستنشق بعض علماء الآثار جزيئات الرائحة من القطع الأثرية التي عُثر عليها في مواقع الحفر والموجودة في المتاحف بينما يتفحص البعض الآخر النصوص القديمة بحثًا عن إشارات إلى وصفات العطور، بل إنهم ابتكروا رائحة تشبه إلى حد كبير تلك التي يُفترض أنها تفضلها كليوباترا وفي سعيهم نحو دراسة وإحياء روائح الماضي يهدف هؤلاء الباحثون إلى فهم كيف اختبر القدامى عوالمهم وتفسيرها من خلال الرائحة.
وتتيح مجموعة من التقنيات الجزيئية الحيوية التعرف على الجزيئات من المواد العطرية القديمة المحفوظة في أواني الطهي والحاويات الأخرى وفي الجير المكسو على أسنان الإنسان وحتى في بقايا المومياوات.
وقد جرب باحثون آخرون البحث عن أدلة رائحة جزيئية في فخار تم التنقيب عنه مسبقًا فقد استخدم الكيميائي التحليلي جاكوبو لا ناسا من جامعة بيزا في إيطاليا وزملاؤه نسخة محمولة من مطياف الكتلة لدراسة 46 وعاءً وبرطمانًا وأكوابًا وكتلًا من المواد العضوية للبحث عن روائح مميزة فى مقبرة ناظر العمال فى عصر قدماء المصريين خا وزوجته ميريت.
وقد تم العثور على هذه القطع الأثرية منذ أكثر من قرن في مقبرة خا تحت الأرض وزوجته ميريت، وهما اثنان بارزان من غير أفراد العائلة المالكة عاشوا خلال الأسرة الثامنة عشر في مصر من حوالي 1450 قبل الميلاد إلى 1400 قبل الميلاد.
وكشف العلماء وفقا لمجلة جورنال أوف آركيولوجيكال ساينس أن تحليلات البقايا من داخل سبع أوعية مفتوحة وكتلة واحدة من مادة عضوية غير محددة كشفت عن زيوت ودهون وشمع العسل وعلامات كيميائية محتملة للأسماك المجففة وراتنج عطري.
تقول دورا جولد سميث إن الزيوت والدهون وشمع العسل في الأوعية السبعة المفتوحة لا يمكن أن تشكل سوى مكونات أساسية للعطور والمراهم المصرية القديمة وقد أضاف إليها صانعو العطور المصريون مجموعة من المكونات العطرية التي تضمنت المر، والراتنج، واللحاء من أشجار الستر والصنوبر، وتوت العرعر، واللبان، وعشب الجوز وقد أنتج تسخين هذه الوصفات مراهم معطرة بقوة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة