فى أى بيئة اجتماعية ولد وتربى وعاش الشاعر نزار قبانى حتى أصبح أحد أكبر الشعراء فى تاريخ الشعر العربى الحديث؟ وكيف شق طريقه لتكون أشعاره كنزا لكبار المطربين والمطربات مثل فيروز ونجاة الصغيرة؟ عن كل هذا وغيره يزيح الستار عن أسراره فى حوار أجراه معه الكاتب الصحفى عبدالتواب عبدالحي، ونشرته مجلة الكواكب، عدده رقم 803، فى 20 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1966.
يكشف نزار: «الفن فى شجرة العائلة عصارة تسرى تحت اللحاء، «أبوخليل» عم أبى كان شارل شابلن أيام السنوات الأخيرة من القرن الـ19، كان يؤلف المسرحية شعرا ويلحنها، ويشترك فى التمثيل والغناء والديكور، كان صاحب فرقة تحيى لياليها فى خان أسعد باشا بسوق البزوربة حتى العطارين فى دمشق، ويعطى البطولات النسائية فى مسرحياته للغلمان، فالمرأة على المسرح أيامها كانت فاكهة مستحيلة، واهتزت العمائم فى دمشق، وثار رجال الدين على إفساد الغلمان والسماح لهم بتعاطى فن التمثيل فى مسرح خان أسعد باشا، وراحوا لمدحت باشا، والى سوريا، فأحالهم على السلطان عبدالحميد فى اسطنبول، واستجاب السلطان لغضبة المشايخ، وأمر بطرد أبوخليل القبانى، وإغلاق الخان».
يضيف: «جاء أبوخليل إلى القاهرة، أكرمه الخديو عباس حلمى ووضع إحدى عربات التشريفة تحت تصرفه، وافتتح أبوخليل مصنعا للنشا فى قويسنا، ليأكل منه ويمول فنه، والتحم بالحركة الفنية فى مصر كتفه فى كتف عبده الحامولى وسلامة حجازى، جيل أبوخليل يذكر له مسرحياته الغنائية «أنيس الجليس» و«عنتر وعبلة»، و«فتح الأندلس»، يوسف وهبى قال لى: «أبوخليل أصل من أصول النهضة المسرحية فى مصر».
يتذكر نزار أيام طفولته، قائلا: «ولدت يوم 21 مارس 1922، ودخلت الكلية العلمية الوطنية، أمضيت بها من مرحلة الحضانة حتى شهادة البكالوريا الأولى سنة 1941 التى تعادل «شهادة الثقافة»، وانتقلت لمدرسة التجهيز، وأخذت البكالوريا الثانية فى قسم فلسفة سنة 1942، وسنة 1945 أخذت ليسانس الحقوق، فالدراسة أيامها كانت ثلاث سنوات فقط».
يؤكد أنه لم يكن عبقريا، كان تلميذا عاديا جدا فى المرحلة الابتدائية، يحب الرسم والخط الجميل، يضيف: «أخذت الابتدائية وفى ثانوى امتلكتنى أكثر هوايتى للرسم والخط، درست أصول الخط على يد المعلم بدوى أكبر خطاطى دمشق، كنت أرسم بالرصاص، فبدأت أستعمل ألوان الجواش والزيت، وعملت أتيليه صغيرا فى غرفة بالبيت، بقَعت بألوان الزيت البلاط والحيطان، تضايقت أمى فنقلت الأتيليه إلى القبو تحت البيت، أحببت أمى بتعلق وعبادة، كنت ابنها المفضل، المصروف لى أكثر من غيرى، اللحم تخفيه تحت الأرز لأستمتع بنصيب وافر منه وحدى».
يتذكر أولى محاولاته شعرية، قائلا: «عمرى 16 سنة عندما كتبت أول محاولة شعرية، كنت فى رحلة مع تلاميذ الكلية العلمية إلى إيطاليا، أول غربة لى، اجتاحنى الحنين لأهلى وبلدى والباخرة لم تخرج من المياه السورية، كتبت قصيدة من شعر الحنين، أذعتها من راديو روما العربى عندما زرناه».
يضيف: «فور تخرجى فى الحقوق اشتغلت ملحقا بوزارة الخارجية، بقيت 21 سنة وأنا مكتوم الروح مقيد الوجدان فى السلك الدبلوماسى، أنتقل بين القاهرة وأنقرة ولندن وبكين وبيروت ومدريد، كنت أذهب إلى حفلات الاستقبال والكوكتيل كارها كطفل يذهب إلى المدرسة يذهب لأول مرة، أتبادل الكلام الفارغ المنمق مع الحاضرين، كلام مصنوع وبلا عاطفة من الطقس، تمزقت طفولتى وشاعريتى وصدئت نفسى، وفكرت أن أستقيل من الدبلوماسية وأؤسس دارا للنشر، لكننى لم أستطع إلا فى أغسطس 1966».
وعن لحظات ولادة الشعر عنده، يقول: «آه من عذابى ساعة مخاض شعرى، زلزال يزلزلنى بلا موعد، ينشق وجدانى وينفجر نبعى، ربما دهمنى بالطريق على مائدة طعام، أو غلى قفاى تحت مشط الحلاق ومقصه، لا أدونه حالا، ذاكرتى مفكرتى إلى أن أصل البيت فأسجله على مهلى، لست شاعرا مطيلا، قصائدى دائما مكثفة قصيرة، والعصر ليس عصر ملاحم».
وعن الذين غنوا له يقول: «نجاة الصغيرة غنت شعرى وتغنت به فيروز، غنت لى «وشاية»، و«لا تسألونى ما اسمه حبيبى»، لم تشتهر الأغنيتان شهرة أغنياتى على لسان نجاة، ربما لأن صوت القاهرة أكبر وأقوى من صوت بيروت، ولا تسألنى عن مقارنة بين صوت فيروز وصوت نجاة، فالأصوات مثل الزهور لكل زهرة عطر ولون، وصوت نجاة «ياسمينة» رقيقة، طاهرة، وعذبة، بينما صوت فيروز زهرة تيوليب جميلة، أنيقة وفاتنة».
يكشف عمن يقرأ لهم من الشعراء، قائلا: «أقرأ بحب وتعاطف أشعار بودلير وفيرلين ورامبو، شعراء فرنسا المبدعين الذين عاصروه نهاية القرن الماضى 19، وبداية قرننا القرن العشرين، ومن الشعراء العرب، نازك الملائكة، فدوى طوقان، عبدالوهاب البياتى، والصلاحان، جاهين وعبدالصبور، وأقرأ لمن عداهم من أى جنسية من باب العلم بالشىء».