أرى الرمال الصفراء تمتد عبر البصر، من كل جانب، توحي بالقفر، بالظمأ، ظمأ الروح والجسد، إلى ما يرويها، أحمل في يدي العصا، وقارورة الماء، خشية الهلاك، ولكن الروح تتوه في خضم هذه الرمال، وحين نجتازها، ينتابني شعور أخر، ربما عصا الأمان، كم أوحت لي الدروب والطرقات بأشياء، كنت أصنفها بالخير والشر، أو بهياكل بشرية فيها من الخوف، ومن الجوع والرهبة، رؤس بشرية، تطل من أعطافها، كنت أحدثها أحيانا، ألوم وأعاتب وأبكي، وأفرح، كان عالمي غريبا، كأني حواء، خلقت وقذف بها على الأرض، هي وأغنامها، وحمارها، الذي تركبه، في مسيرتها نحو العشب، لم أدري هل كنت أبحث عن الكلأ لأغنامي، أم كنت أتحجج بها في مسيرة بحثي، عن آدم في كل الزوايا والطرقات، لاشك إن الكلأ كان مهما فلكي أبقى لا بد من طعام لي ولأغنامي، كي أبقى حية، وأستطيع أن أكمل مسيرة بحثي عنه، لم أتوقف عن تخيله، وإن كان إهتمامي بالقطيع أشد في بداية الأمر..
أنا الآن أكبر، وسط هذا الكم الهائل من اللاشيء، الذي يحيط بي في عالمي، الذي أشعر معه بالزحام والفراغ في نفس الوقت، لم تكن الرمال فقط، هي التي توحي لي بهذا القدر من الخيال، إنما كان القدر الأكبر، ينبع من نفسي المؤرقة دائما وأبدا، المتعطشة في كثير من الأيام.
كنت أحادث الأشياء، أوراق الشجرة، شجرة أعتدت أن أستظل عندها، صارت بيني وبينها ألفة، صرنا صديقتين، نتهامس بكل ما يزعجنا، من الحياة، كنت دائمة الشكوى لهم، ولم أشعر بأني عبأ ثقيل عليها يوما، أركب الحمار، وأمشي وسط القطيع، الخرج تحتي، فيه بعض الحطب، وعدة الشاي، وقليل من الطعام، أقطع الأرض والمفاوز، على الحمار، بلاد وبلاد، أمر بها، وأرض فضاء، ولكن عالم اللا إنسان أو البعيد عنه، وعالمي المفضل، أعتدت على صمته وخوفه، أترقب وأتمعن في الأشياء، التي تقابلني، كنت أقود هروبا جماعيا، أنا وقطيعي، كنت أتزعم الحركة، وأضع الخطط، وأنفذها وما عليهم سوى الطاعة العمياء، في تنفيذ أرادتي، كنت سعيدة بتلك الزعامة والرياسة، عندما لم يكن أحد من أخوتي، أو أبي موجود، وعندما يحضرون، أكون وهم في خدمة الأقوى، أبي أو أخي، كنت أوهم نفسي بأني صاحبة قرار، ورأي يجب أن ينفذ، لأنه الرأي الصواب، والحكيم، رغم أني لست إلا تابعة، ولكني كنت أخفف عن نفسي بهذا الخيال.
ما أجمل الخيال، فهو يسعفنا دائما، ويريحنا ويمهد لنا الطريق، لتقبل الحياة أو تخفيف قسوتها، التي تذبحنا، أحيانا بكل قوة وجبروت، لا ترحم، ولا تشفق، وإنما هي قوة غاشمة، تهوي علينا، فتهدم وتحطم، وتبعثر وتشتت، كنت أتعجب عندما تلقي كل يوم بهذا العدد الغفير من البشر، في كل مكان في العالم، ثم ينزوي أمثالي بعيدا عن ضجيجها، وعندما كنت أوّلد عنزة، تخرج إلى الحياة، حَمَل صغير تتعثر خطوته على الأرض، ساعة الولادة أرضعه كالأطفال من زجاجة أضع لها جلدة بزازة، كنت أشعر نحوها بأمومة جارفة تكتسحني، وتسير في أعصابي مشاعر أمومة طاغية، أرضعها أحميها، أعلمها المشي، أخطو بها نحو الحياة، أطعمها تكبر يوما بعد يوما، ثم نسلمها لسكينة الذبح، لتصير هي طعام وثريد، يلتف حوله مجموعة من الناس، يتطايرون فرحا وسعادة، وتلقى النكات، وتتسع الأفواه.
كنت أقول لنفسي ما أقسى الإنسان، حملي، عنزتي الصغيرة، تؤكل ومن حولها الضحكات عالية، كنت أفكر بعقل طفل، وقلب طفل، فالناس أيضا حينما يكبرون، يذبحون، وتقام على موائدهم الحفلات والضحكات، يأكلون في سيرهم وأعراضهم وأحاديث لا تنقطع، وتمتد إلى حيث لا تتوقف أبدا.