نتوقف اليوم مع آخر روايات هاروكى موراكامي المدينة وجدرانها غير المؤكدة وفى خاتمة تلك الرواية "المدينة وجدرانها غير المؤكدة"، يكتب هاروكى موراكامى جملة بديعة وهى أن المؤلفين يقضون حياتهم المهنية فى إعادة ترتيب "لوحة محدودة من الزخارف" لسرد "عدد محدود من القصص"، وهو لا يمكن تلافيه من وجهة نظرى وهو إن كان يؤمن بتلك المقولة إيمانًا كاملاً فيمكن فهم أنه يحاول أن يتجنب تحققها عليه شخصيًا بالسعى نحو آفاق جديدة لرواية القصص والحكايات من خلال وسائل عدة منها المعايشة المباشرة واقتناص حكايات من الواقع عبر الاحتكاك المباشر بالجلوس على المقاهي وارتياد الأماكن التى هى خارج الخطط الطبيعية والسفر.
فى هذا الكتاب يحسن مسارات روايته "بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم" الصادرة عام 1985 وقد بدأ موراكامي كتابة "المدينة" في مارس 2020، ورغم أنها ليست رواية عن الوباء، فإن موضوعاتها المتعلقة بإعادة التقييم والعزلة تعكس بوضوح تلك الحقبة.
الرواية غير مزخرفة ومركزة بشكل ملحوظ، وإن كانت طويلة بعض الشيء، وتبدو وكأنها عمل موراكامي الأكثر ثقة منذ فترة طويلة حيث يستمتع موراكامي باستخدام التكرار المستمر والحوارات شبه الأفلاطونية لبناء جو من التأمل.
تلتزم "المدينة" فى البداية بتنسيق "بلاد العجائب" من خلال نسج مسارين، الأول فى "العالم الحقيقى" والآخر في "مدينة محاطة بسور مرتفع" وخط الحكى يبدأ مع الراوي الذي لم يذكر اسمه، والذي يبلغ من العمر 17 عامًا ويقع في حب فتاة تبلغ من العمر 16 عامًا وهى قصة رومانسية مستهلكة ولكنها عفيفة، تدور أحداثها إلى حد كبير من خلال الرسائل.
تشعر الفتاة بأنها "مجرد بديل، ظل" لذاتها الحقيقية، التي توجد في مدينة مسورة. يمكن للراوي أن يجدها هناك، كما تقول، ويصبح قارئ أحلام فكل ما عليه فعله هو "تمني الدخول".
وعندما تختفي فجأة، يشعر الراوي بالحرمان ولمدة 30 عامًا تقريبًا، لا يستطيع المضي قدمًا، وينمو "بشكل أكثر عزلة ووحدة"، لكنه يعود من خلال النسخة التي يبلغ عمرها 45 عامًا من الراوي فيصل إلى المدينة المسورة، وعلى الرغم من أن الفتاة لا تزال في السادسة عشرة من عمرها فإنها لا تتذكره.
كل من المدينة والقصة مألوفتان لقراء "بلاد العجائب" التي يتم فيها فصل سكان المدينة عن ظلالهم بواسطة حارس البوابة وفيها ينطلق وحيد القرن الذهبي في الشوارع وتحمل أرفف المكتبة أحلامًا قديمة، مخزنة الآن في بيضاويات بدلاً من جماجم وحيد القرن، كما كانت في "بلاد العجائب".
ينتهي هذا القسم الأول من "المدينة" بنفس الطريقة التي انتهت بها "بلاد العجائب"، حيث يختار الراوي وظله مصائر مختلفة، ويرسم بقية الرواية الجديدة مسارها الخاص في العالم الحقيقي، يترك الراوي في منتصف العمر وظيفته في شركة في طوكيو ويصبح أمين مكتبة رئيسي في بلدة صغيرة على بعد حوالي 60 ميلاً إلى الشمال في فوكوشيما.
خلال شتاء طويل، يتعلم أسرار أمينة المكتبة المنفتحة، ويلتقي بامرأة مطلقة في الثلاثينيات من عمرها تدير مقهى محليًا، ويصادق مراهقًا يقرأ "بفضول فكري لا يشبع" وتتجمع هذه القصص بطريقة مرضية للغاية وفي عودة أخيرة إلى المدينة المسورة، يترك موراكامي القراء مع إمكانية الأمل في الحياة في العالم الحقيقي.