فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، كانت مدينة نيويورك الأمريكية تحاول التعافى من كبواتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فما عانته فى السنوات السابقة من انحدار وأزمات لا يزال عالقا فى أذهان أهلها من قدامى السكان أو المهاجرين الجدد، ومع ذلك تابع الجميع بانبهار حركات فنية تتشكل فى شوارعها وتغزو العالم مثل «هيب هوب» وغيرها.. ووسط هذا الجنون المطلق بدأت رؤية رجل أعمال شاب يدعى دونالد ترامب تتشكل، آنذاك لم يكن أحد يعلم ولا حتى ترامب نفسه أن أفكاره وقراراته ستؤثر يوما ما ليس فقط على مدينته البائسة، وإنما العالم أجمع.
حينها، أنهى الشاب ترامب للتو مقابلة تليفزيونية أجاب فيها على سؤال طرحته المذيعة عن تصرفه إذا خسر ثروته كلها، ليجيب بأنه سيترشح لرئاسة أمريكا، وكعادته عاد مستدركا ليؤكد أنها مزحة.. لكن الأيام أثبتت أن مزاح ترامب ما هو إلا أمانى يخجل أن يعلنها صراحة، فالتصريحات كانت ـ ولا تزال ـ مشروع قرارات، وانعكاس لنوايا تطغى معها الرغبات على أى تقديرات، وتجتاز معها «أحلام دونالد» أحكام الجغرافيا وطبائع التاريخ، وما استقر من حدود وأعراف وقوانين.. وهو ما يجعل من مقترح ضم كندا رغبة شاخصة ومشروعا قائما، وليس «مزحة ثقيلة»، وهو ما يعنى أيضا أن تهديداته بجحيم ما بعد 20 يناير حال عدم الإفراج عن رهائن غزة واقعا سيفوق فى شراسته ما شهده الشرق الأوسط على مدار ما يقرب من عام ونصف العام .. جحيما سيكون فريدا فى دمويته، لكنه فقط ينتظر موعد دخوله حيز التفعيل.
ولنعود للماضى مجددًا، بعد انتهاء المقابلة التليفزيونية، استقل دونالد سيارته الفارهة وبجواره شريك بداياته- لا يقل إثارة للجدل عنه - المحامى الشهير روى كوهن - لكن تلك اللحظات لم تكن الأفضل، فقد كانت هناك مظاهرات تموج بها الشوارع وتعطل مسيراتهما، لذا لم يجد دونالد شيئًا للتعبير عن ضيقه سوى بأمر سائقه «سايمون» بدهس المتظاهرين ليمر! إلا أنه سرعان ما استدرك وأكد لسائقه أنه يمزح!
- خيط رفيع بين الحقيقة والخيال
المشاهد المذكورة أعلاه هى خيط رفيع بين الحقيقة والخيال، فهى وردت بالنص فى فيلم «the apprentice» أو المتدرب.. ذاك العمل الفنى الذى أغضب الرئيس الأمريكى المنتخب ترامب، ووصفه بنفسه عبر حساباته على سوشيال ميديا بـ«عمل سياسى مثير للاشمئزاز والأحقاد»، وللمفارقة أن مخرج العمل هو الإيرانى على عباسى!
«فيلم المتدرب» واحد ضمن عشرات الأعمال الفنية عن الرئيس الأمريكى وحياته وصعوده إلا أن مشاهدته تجعلك تؤمن بشيئين أولها لا تصدق مزاح أو جد أو حديث ترامب عمومًا.. عليك التركيز على أفعاله فقط ولا شىء آخر، وثانيهما والأكثر أهمية لا تبالغ فى اعتبار نفسك صديقًا له، فقد اعتاد أن يولى وجهه أينما وجدت مصلحته، والدليل ما فعله فى زوجته الأولى إيفانا ثم مستشاره ومهندس مسيرته فى عالم المال والأعمال روى كوهين الذى أشاح عنه النظر بمجرد سقوطه أخلاقيا ومهنيًا، وأعاد استخدامه مرة أخرى عندما قضت الحاجة.
والآن ، ونحن مقبلون على فترة رئاسية جديدة لواحد من أكثر الشخصيات إثارة للجدل فى تاريخ أمريكا والعالم، يتطلع شرقنا الأوسط المأزوم للرجل باعتباره مالك لكثير من مفاتيح اللعبة على الساحة الإقليمية، ومتطلعا لتحركاته خاصة أنه يعقب إدارة أمريكية صنفها كثير من الخبراء والمحللين السياسيين بـ«الضعيفة التائهة» كحال رئيسها جو بايدن.
فيما يلى نحلل موقف إدارة ترامب المحتمل من شرق أوسط «مشتعل»، والتحليل ليس مبنيا على مشاهدة فيلم المتدرب أو غيره من الأعمال الفنية، إنما استنادا لمسلسل واقعى قدمه فى فترته الرئاسية الأولى الأولى وأعقبه بأربع سنوات أخرى من حرب ضد خصومه السياسيين، قبل ترشحه فى الانتخابات والفوز بها مجددا.
الآن ينتظر الشرق الأوسط المتفجر «رجل الأعمال الأشهر والأهم فى العالم».. يتأهب الشرق الأوسط لعقد صفقات ترامب المعتادة، فمن سيبيع ومن سيشترى ؟ ومن سينال الإنصاف ومن ستلاحقه الخسائر الفادحة.. تلك هى المعضلة الصعبة أو بصيغة أخرى إذا صرفنا قول الشاعر العربى أبو تمام : «السيف أَصدقُ أنباءً من الكتب»، فإن سياسة ترامب المعروفة عنوانها «الصفقات أصدق أنباء من الخطابات».
رحلة صعود دونالد ترامب
رحلة صعود دونالد ترامب
رحلة صعود دونالد ترامب
- «مصر والخليج العربى».. وشراكة لا بد منها
اعتمد ترامب على نهج واضح فى فترته الرئاسية الأولى تمثل فى إقامة روابط قوية مع مصر ودول الخليج العربى، والتركيز على المصالح الاستراتيجية المشتركة والتعاون فى الملفات المختلفة فى ظل معاناة المنطقة من معادلات معقدة فى كثير من الأحيان.
نتائج محركات البحث عن علاقة إدارة ترامب بمصر ودول الخليج فى فترته الأولى كلها تشير إلى رغبة الرجل فى الاستفادة من القوى الإقليمية الكبرى فى المنطقة، وتحقيق نجاحات فى ملفات مُحددة بالنسبة له.
على الصعيد المصرى، تميزت العلاقات المصرية الأمريكية فى عهد ترامب بالقوة والمتانة، والاتفاق على العديد من الملفات المشتركة على عكس إدارات أمريكية أخرى ومنها إدارة جو بايدن الحالية.
خلال فترة حكم ترامب بين عامى 2017 و2019، زار الرئيس السيسى الأبيض مرتين، وفى عام 2019 خلال القمة المصرية الأمريكية وشدد الرئيس الأمريكى على أن العلاقات بين القاهرة وواشنطن لم تكن يوماً جيدة أكثر مما هى عليه اليوم، مضيفًا بأن السيسى يقوم بعمل عظيم.
وفى فترة ترامب الثانية، يتفق معظم الخبراء على أن العلاقات بين مصر والولايات المتحدة لن يعكر صفوها الكثير من المشكلات أو العقبات لكن تبقى القضية الفلسطينية واحدة من الملفات محل النقاش، خاصة أن القاهرة أعلنت أن لها مفهومها الراسخ عن السلام فى الشرق الأوسط وتحقيقه لا يجب أن يتم على حساب تصفية القضية أو تهجير أبناء الشعب الفلسطينى من أرضهم سواء من قطاع غزة أو الضفة الغربية المحتلة، إنما عن طريق حل الدولتين وتنفيذ القرارات الدولية فى هذا الشأن.
بالنسبة للعلاقات الأمريكية الخليجية، فإن دول مجلس التعاون دائما ما حافظت على علاقاتها القوية والاستراتيجية مع الجانب الأمريكى على مدار الإدارات المتعاقبة، والعكس صحيح سواء ذلك فى مسائل الأمن أو الملفات الاقتصادية لكن العلاقة من الحين للآخر تتأثر بالأوضاع السياسية الخارجية.
فى عهد ترامب تم وصف العلاقات بأنها أقوى وصار الاتفاق بشكل أسرع على عدة ملفات، خاصة أن الرئيس الأمريكى يدرك قيمة دول الخليج الاقتصادية ومكانتها فى قطاعات مثل قطاع الطاقة، والدليل على ذلك وفى 20 مايو 2017، زار دونالد المملكة العربية السعودية فى أولى جولاته الخارجية بعد تسلمه مقاليد الحكم فى البيت الأبيض خلال فترته الرئاسية الأولى، وصف زيارته وقتها بـ«اليوم العظيم»، وصرح قائلاً : «استثمار المملكة فى الولايات المتحدة يُظهر التزامها العميق بالشراكة معنا».
والآن مع عودة ترامب للبيت الأبيض، لا يمكن القول بأن العلاقات الأمريكية الخليجية ستكون فى مستويات أضعف لكن هناك تحديات أخرى طرأت على المشهد فى ظل تنويع دول الخليج لشبكة علاقات بشكل أكبر وتعميقها مع دول كبرى مثل الصين والهند وروسيا، وبالتالى سيحتاج الرئيس الأمريكى المنتخب لمناقشة عدة ملفات وأمور من منظور مختلف عما كان عليه الوضع فى الماضى.
- غزة وإسرائيل .. «فاتورة جحيم» تنتظر السداد
منذ صعوده السياسى، تعامل ترامب مع القضية الفلسطينية بحسابات الربح والخسارة، أكثر من الاستقرار والسلام، ولم يسر على نهج أسلافه من ساكنى البيت الأبيض برفع شعارات العمل من أجل السلام، أو السلام مقابل الأرض، فالراجل كان صريحًا فى دعمه لإسرائيل غير مكترث بوضع مساحيق تجميل للمسألة.
وفى 6 ديسمبر 2017، أقدم ترامب على خطوة مثيرة للجدل، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لـ«دولة إسرائيل»، وقال يومها: «اليوم أنا أوفى»، قاصدا بذلك الوعد الذى قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية فى 2016، موضحًا بأن الخطوة «ليست أكثر من إقرارا للوضع القائم بالفعل»، رغم أن المجتمع الدولى لم يعترف بالقدس المحتلة أبدا عاصمة للدولة العبرية!.
قرار ترامب لم يكن مجرد حلقة من حلقات مساندة واشنطن لحليفتها الأقرب، بل كان تراجعا عن سياسة اتبعتها الولايات المتحدة نفسها لعقود طويلة، وضربة لمقترحات السلام القائمة على أساس حل الدولتين، بعد أن ظلت واشنطن تقول، منذ مفاوضات مدريد 1991، أن الوضع النهائى لمدينة القدس تحدده المفاوضات بين الجانبين.
- رؤية ترامب المختلفة للسلام
رغم قرار نقل السفارة لم يرد ترامب أن تنتهى فترته الرئاسية دون تحقيق إنجاز يتعلق بالسلام فى الشرق الأوسط، خاصة أنه استعصى على الجميع، والراجل يرى فى نفسه شخصا يستحق جائزة نوبل للسلام كما صرح من قبل، لذا طرح فى يناير 2020 خطته للسلام، وأطلق عليها: «سلام من أجل الرخاء: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى».
اقترحت الخطة سلسلة من «الجيوب» الفلسطينية تحيط بها دولة إسرائيل أكبر حجما، دون أن يكون للفلسطينيين عاصمة فى القدس الشرقية كما أرادوا، وبالطبع، تم رفض الخطة من الفلسطينيين.
وفى عام 2024 مع إطلاق ترامب حملته الانتخابية، كانت المياه الراكدة فى المنطقة تحركت بعد عملية طوفان الأقصى وما تبعها من حرب إسرائيلية وحشية على قطاع غزة.
وبطبيعة الحال، كثف ترامب خطاب الدعم والمساندة غير المشروطة لإسرائيل، وتجسد ذلك بقوة فى حثه لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وحكومته باستكمال الهجوم على حماس، وتعهد حتى بترحيل المحتجين الداعمين لفلسطين من الولايات المتحدة ووصفهم بـ «الراديكاليين الموالين لحماس».
ترجم ترامب هذا الولاء الشديد لإسرائيل باستغلال نفوذه وسط الجمهوريين فى الكونجرس لإقرار مساعدات عسكرية قوية للدولة العبرية بخلاف دعم إدارة بايدن نفسها، ومنذ أكتوبر 2023، حصلت تل أبيب على 17.9 مليار دولار من حليفتها، فيما تجاوز أى عام سابق منذ بدء المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل فى عام 1959.
وبما أن ترامب يرى نفسه رجل يستحق جائزة نوبل للسلام، وأصوات الناخبين أيضًا، ارتبك خطابه إزاء غزة خلال الحملة الانتخابية، واتسم بالازدواجية، وظهر هذا فى حديثه إلى الناخبين العرب والمسلمين، بعد ما رفع شعار إنهاء المعاناة فى الشرق الأوسط وتعهدات إنهاء الحرب، وبخلاف ذلك كان مستمرا فى دعوة إسرائيل لاستكمال مهمتها.
بعد انتصاره فى الانتخابات، رفع ترامب شعار «السلام بالقوة» الذى تردد حتى على لسان بعض المرشحين البارزين فى إدارته القادمة، من بينهم ماركو روبيو، المرشح لتولى وزارة الخارجية، والسلام بالقوة مصطلح فضفاض يحمل الكثير من المعانى، وتساءل البعض أى قوة يقصد؟، ولم تظل التساؤلات حائرة كثيرًا، فقد أوضح ترامب سياسته بنفسه.
فى 2 ديسمبر 2024، أطلق الرئيس المنتخب تهديده الأشد عنفا بشأن غزة، المتعلق بالأسرى المحتجزين فى القطاع، وكتب على منصته للتواصل الاجتماعى تروث سوشيال يقول: «إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن قبل 20 يناير 2025، وهو التاريخ الذى أتولى فيه بفخر منصب رئيس الولايات المتحدة، فسيكون هناك جحيم فى الشرق الأوسط، وسوف يدفعه المسؤولون الذين ارتكبوا هذه الفظائع ضد الإنسانية، سيتضرر المسؤولون أكثر من أى شخص آخر فى التاريخ الطويل والحافل للولايات المتحدة الأمريكية.. أطلقوا سراح الرهائن الآن».
تصريحات ترامب أثارت جدلاً عالميًا عن أى جحيم يقصده فى الشرق الأوسط، ماذا يمكن حدوثه فى غزة مثلاً أكثر مما جرى من كارثة إنسانية ستظل فى ذاكرة التاريخ الحديث، ومع اعتبار مسألة إتمام صفقة تبادل رهائن فى غزة أولوية بالنسبة له باعتبارها نصرا سياسيا قبل يوم التنصيب، ستبقى ترتيب اليوم التالى فى القطاع المشكلة الأكبر فى السنوات المقبلة.
وعلى ذكر ترتيب اليوم التالى فى القطاع، خرج ترامب بتصريحات غريبة عن قطاع غزة تقمص فيها دور رجل الأعمال أكثر من السياسى، وقال فى مقابلة تليفزيونية إن غزة يمكن تحويلها لمكان «أجمل من موناكو»، متحدثا عن استغلال موقعها الجغرافى ومناخها المميز، مع إمكانية جعلها أفضل موقع فى الشرق الأوسط.
نقطة أخيرة تتعلق بعلاقة ترامب ونتيناهو.. البعض يرى أن دونالد سيكون داعما لـ«بنيامين» بشكل غير مشروط أكثر من إدارة بايدن نفسها التى أظهرت اختلافا فى رؤى وحتى لو كان شكليًا، بينما يرى آخرون أنه سيسعى للتخلص من نتنياهو بعدما أصبح «كارت محروق»، ومنبوذ دوليًا بحكم محكمة، مثلما فعل فى الماضى مع شريك نجاحه وصعوده المحامى روى كوهن!.
- لبنان.. واختيار صانع الصفقات
لم تكن لبنان قضية مشتعلة فى الشرق الأوسط إبان رئاسة ترامب الأولى رغم المعاناة الاقتصادية والسياسية إلا أنها ظهرت فى خطابه بعد حادث انفجار مرفأ بيروت فى أغسطس 2020.
رغم عدم أولوية المسألة اللبنانية، تبنى ترامب ترامب موقفا صارما من حزب الله، الذراع القوى لإيران «عدوه اللدود»، وفى نوفمبر 2018، أعلنت الخارجية الأمريكية مكافآت مالية لأى معلومات تقود إلى تحديد قادة الجماعة البارزين.
ومن فترة ترامب الأولى إلى الثانية، تغير الكثير وأصبحت لبنان اسما مطروحا على الساحة الإقليمية والدولية بعد الهجوم الإسرائيلى على حدودها الشمالية فى سبتمبر الماضى بعد عملية طوفان الأقصى، قبل أن يتم التوصل لاتفاق وقف النار فى وقت لاحق.
الوضع اللبنانى الجديد، ولا يمكن فصله عن غزة أيضًا، جعل ترامب يلجأ إلى مسعد بولس، والد زوج ابنته تيفانى، وهو رجل أعمال أمريكى من أصل لبنانى، وذلك من أجل فك رموز المشهد المعقد.
برز اسم بولس بشكل خاص خلال الحملة الانتخابية لترامب، بعد ما استغل المرشح الجمهورى فى هذا الوقت أصول بولس العربية، للتواصل مع المسلمين العرب والأمريكيين، ومحاولة جذب أصواتهم مستغلاً حالة الاستياء الشديد إزاء موقف إدارة بايدن وهاريس من الحرب الإسرائيلية فى غزة والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين فى القطاع.
لم يقتصر دور بولس على فترة الحملة الانتخابية فقط، فقد عينه ترامب مستشارا له لشؤون الشرق الأوسط والعالم العربى، ووصفه بـ «صانع صفقات، ومؤيد ثابت للسلام فى الشرق الأوسط.. وسيكون مدافعا قويا عن الولايات المتحدة ومصالحها».
- وقف إطلاق النار فى لبنان
رغم أن ترامب لم تطأ قدماه بعد البيت الأبيض فإنه بحكم طبيعة مرحلة انتقال السلطة فى الولايات المتحدة وما تقتضيه مع إطلاع الرئيس المنتخب على ما يجرى، تم إشراكه فى مفاوضات وقف إطلاق النار فى لبنان ليس فقط من جانب إدارة بايدن، ولكن من الجانب الإسرائيلى أيضًا.
وبعد خمسة أيام فقط من انتخابه، وتحديدا فى 10 نوفمبر الماضى، التقى ترامب فى مقر إقامته بمارالاجو بفلوريدا بوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلى المقرب من نتنياهو، رون ديرمر، الذى أخبره بشأن مفاوضات لبنان، وبحسب تقرير لموقع أكسيوس، فإن ترامب لم يعترض، بل أبدى تأييدا لعمل نتنياهو مع بايدن للوصول إلى اتفاق قبل 20 يناير.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وهو مركز أبحاث أمريكى قريب من إسرائيل، قال إن ترامب أثر جزئيا فى موافقة نتنياهو على قرار وقف إطلاق النار فى لبنان رغم معارضة عناصر اليمين المتشدد فى حكومته، إلا أن الجميع يعلم أن ترامب يريد أن تنتهى الحرب.
المعهد أشار إلى أن نتنياهو، وخلال فترة ترامب الأولى، امتنع عن ضم أراضى فى الضفة الغربية بعد إعلان إسرائيل أنها ستفعل، وذلك بعد ما طرح ترامب خطته للسلام فى 2020، مضيفا بأن نتنياهو سيواجه بعض الخيارات الصعبة، إما الرضوخ لترامب والمخاطرة بالتحالف معه، أو رفض مطالب ترامب ومواجهة عواقب غير معروفة، ومن ثم، فإن الموافقة على وقف إطلاق النار فى لبنان كان الجزء الأسهل.
- اليمن..الحوثى تحدى أمام ترامب مرة أخرى
على عكس سوريا، لم يتمسك ترامب بمبدأ «عدم التدخل» فيما يتعلق باليمن خلال فترته الأولى، فقد وضع نصب عينيه ضرورة تحجيم جماعة الحوثيين، وبالتالى وسعت إدارته التدخل العسكرى الأمريكى لدعم التحالف الذى قادته السعودية فى عمليات مكافحة الإرهاب، بل أنه استخدم حق النقض الرئاسى ضد قرار من الكونجرس كان يهدف لإنهاء هذا التدخل.
وبرر ترامب موقفه بأنه ضرورى لحماية المواطنين الأمريكيين، وفى الأيام الأخيرة لرئاسته الأولى، صنفت إدارة ترامب الحوثيين كتنظيم إرهابى، إلا أن هذه الخطوة تراجعت عنها إدارة بايدن لـ «أسباب إنسانية».
وفى نوفمبر 2018، ظهرت بادرة دبلوماسية من قبل إدارة ترامب عن طريق وزير الدفاع جيمس ماتيس الذى دعا إلى إنهاء الحرب وإجراء محادثات سلام برعاية الأمم المتحدة لكنها لم يكتب لها النجاح فى ظل موقف ترامب المتشدد تجاه إيران الداعم الرئيسى للحوثيين.
ومع عودته إلى البيت الأبيض، فإن جماعة الحوثيين باتت طرفا فاعلا فيما يجرى فى الشرق الأوسط مع تصاعد الحرب على غزة، بشنها هجمات على السفن فى البحر الأحمر، الأمر الذى أثر بشكل كبير على الملاحة فيه.
ومن المتوقع أن يواصل ترامب سياسة «العصا والجزرة» فى اليمين، بمواصلة ضربات الدرونز العسكرية لصد هجمات الحوثيين وتقويض بنيتهم التحتية، مع تركيز أكبر على الدبلوماسية مما شهدته فترته الرئاسية الأولي، بعد أن تجاوز تأثير ما يحدث فى اليمن حدودها ووصل إلى المعركة المشتعلة فى قلب الشرق الأوسط.
- سوريا.. سقوط الأسد ومخاوف عودة داعش
«التركيز على داعش.. ومناوشات مع نظام بشار الأسد».. هكذا يمكن اختصار سياسة ترامب إزاء الوضع فى سوريا خلال فترته الأولى.
اكتفى ترامب باستهداف ترسانة الأسلحة الكيماوية فقد شن ضربات جوية فى أبريل 2018 استهدفت منشآت لها صلة ببرنامج الأسلحة الكيماوية، بعد هجوم بهذه الأسلحة فى دوما، إحدى ضواحى دمشق، وقبلها أمر ترامب بضربة بصواريخ توماهوك ضد مواقع سورية أيضا ردا على هجوم كيماوى على المدنين فى خان شيخان فى أبريل 2017.
وفى أكتوبر 2019، اتخذ ترامب قراره الأهم تجاه سوريا بعد إعلانه سحب القوات الأمريكية من شمال البلاد، مما سمح لتركيا بشن هجوم على الجماعات الكردية فى المنطقة، والتى كانت حليفة للولايات المتحدة فى المعركة ضد تنظيم الدولة «داعش».
رغم أن ترامب لم يُعر الأسد اهتمامًا كبير لكنه أبقى على موقف إدارة أوباما بضرورة إسقاط حكمه، والآن يتساءل الجميع عما سيفعله تجاه سوريا بعد إسقاط بشار رغم تصريحاته بأن ما حدث ليس معركة أمريكا ولا دخل لها فيها.
رغم تصريحات ترامب عن تجاهل الوضع السورى إلا أنه سيكون على موعد مع اتخاذ قرارت حاسمة، منها الموقف من هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولانى أو أحمد الشرع، وهى السلطة الحاكمة حاليًا فى سوريا والمصنفة من قبل الولايات المتحدة جماعة إرهابية لعلاقاتها السابقة بداعش والقاعدة، وذلك وبحسب نيويورك تايمز.
وتقول الصحيفة إن التواصل مع الإدارة الجديدة فى سوريا سيتطلب من ترامب تراجعا سياسيا صعبا، نظرا لحديثه الدائم على محاربة الإرهابيين، ناهيك أن إدارته هى من صنفت «تحرير الشام» جماعة إرهابية فى 2018، إضافة إلى ذلك سيحتاج ترامب أيضا للنظر فى مصير قوات أمريكية لا تزال موجودة فى شمال سوريا بهدف محاربة داعش مع الوضع فى الحسبان انهيار قوات الجيش السورى النظامى، مما يثير مخاوف أمريكية من عودة التنظيم الإرهابى.
أهم قرارات ترامب فى الفترة الرئاسية الأولى
أهم قرارات ترامب فى الفترة الرئاسية الأولى
- الأزمة الليبية واتصال هاتفى
فى العقد الأخيرة من الزمن، برزت ليبيا على الساحة الدولية كمسرح للأحداث وحضر اسمها على موائد السياسيين سواء دوليًا أو إقليميا، وذلك فى أعقاب الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافى، وما تلاه من أحداث كانت فوضوية وحزينة فى قطاع كبيرة منها.
ورغم أهمية الملف الليبى، وثراء تفاصيله على الصعيد الإقليمى والسياسى إلا أن ترامب خلال ولايته الأولى لم ينخرط فيه بشكل كبير، أو تعامل معه بطريقته المعهود من عمليات شد وجذب وتصريحات مثيرة للجدل، وفضل ترك المسألة فى أيدى الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة وتفاصيلها. فى 19 أبريل 2019، برز اسم ليبيا على أجندة الرئيس الأمريكى ترامب، ووفقا لما صدر عن البيت الأبيض من بيان فى هذا اليوم فقد تحدث ترامب هاتفيا مع القائد العام للجيش الليبى المشير خليفة حفتر لبحث جهود مكافحة الإرهاب.
وذكر البيت الأبيض أن ترامب فى اتصاله أكد لحفتر ضرورة تحقيق السلام والأمن فى ليبيا.. أقر بدور المشير الجوهرى فى مكافحة الإرهاب وتأمين موارد ليبيا النفطية، وتناولا رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسى ديمقراطى مستقر».
البيان السابق للبيت الأبيض رغم أن عدد كلماته قليلة إلا أنه قد تلخص رؤية ترامب تجاه دولة ليبيا المتمثلة فى تأمين مواردها النفطية وجهود مكافحة الإرهاب، وهذه أسس الصفقة الرابحة بالنسبة لرجل الأعمال الأمريكي، وبخلاف ذلك فإن التفاصيل السياسية الأخرى لا تعنيه كثيرًا مثلما أثبتت الأيام فما يُحركه المال لا غيره!
- تونس واختفاء المناوشات
أمّا بالنسبة للوضع فى تونس، فينطبق عليه مقولة أداء فرق شمال أفريقيا التكتيكى، فالطرفان سواء إدارة ترامب أو المسؤولين التونسيين، اختاروا اللعب على المضمون خلال ولاية الرئيس الأمريكى الأولى، فلم تكن هناك تصريحات بارزة من الطرفين سوى الأحاديث البروتوكولية المعهودة عن قوة العلاقات بين البلدين، والتعاون فى الملفات المشتركة أبرزها مكافحة الإرهاب فى شمال أفريقيا.
وشهدت فترة إدارة بايدن عدة مناوشات وتصريحات سياسية متبادلة مع دولة تونس، إلا أنها قد تختفى خلال ولاية ترامب الثانية فى ظل عدم تركيزه على الأمور السياسية باعتبارها أشياء هامشية ولا تحقق منفعة، وسيكون التعامل مع الملف الاقتصادى التحدى الأكبر، خاصة أن «المساعدات الاقتصادية» من منظوره ترتبط بتحقيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية بشكل مباشر وفعال.
- المغرب وتفاؤل بالمستقبل
على عكس تونس فإن المغرب خلعت ثوب فرق شمال أفريقيا، وحققت نتائج عالمية أبرزها رابع العالم فى مونديال الدوحة 2020، وعلى ما يبدو أنها تأمل فى تحقيق نتائج مماثلة فى ميدان السياسة فى عهد إدارة ترامب خاصة أن المؤشرات الأمريكية والتقارير المغربية تشير إلى حالة تفاؤل متبادلة تجاه التعاون المشتركة بين الطرفين، مع وضع فى الاعتبار أن الفترة الأولى للرئيس الأمريكى فى أسابيعها الأخيرة شهدت تقاربا فى عدة ملفات كانت محل خلاف فى عهود إدارات أخرى، مثل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، واتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبرز اسم المغرب على لسان ترامب فى 10 ديسمبر 2020، عندما قال عبر حسابه على تويتر وقتها «إكس حاليا»: «لقد اعترف المغرب بالولايات المتحدة عام 1777، ومن ثم فمن المناسب أن نعترف بسيادتهم على الصحراء المغربية».
كما قال أيضا: «اختراق تاريخى آخر اليوم! اتفق صديقتانا العظيمتان إسرائيل والمملكة المغربية على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة - اختراق هائل للسلام فى الشرق الأوسط!».
والآن بعد مرور هذه السنوات، يتوقع خبراء سياسيون أن ترامب سيدعم المغرب فى ملف الصحراء الغربية بخطوات حاسمة، على خلاف إدارة بايدن التى لم تتخذ قرارًا واضحًا وحاسمًا فى هذا الملف طوال مدته، وجمدت مسار ترامب، وفضلت دعم المفاوضات عبر"الأمم المتحدة".
- الجزائر.. ترقب وحذر
على عكس المغرب تأتى الجزائر فى ظل عدم موافقتها على موقف ترامب من ملف الصحراء الغربى كونها تتخذ موقفًا مخالفًا، وظلت العلاقة قائمة على الشكل البروتوكولى والتركيز على ملفات مثل التعاون الأمنى والاقتصادى وإن لم يكن حجمه كبيرا بالشكل المغرى للرئيس الأمريكى حتى يحرك العلاقات بشكل أكثر ديناميكية.
فى ولاية ترامب الثانى، ستراقب الجزائر موقفه بالتأكيد من ملف الصحراء الغربية، ومدى تحركه فى هذا الملف الذى اتخذ موقفه منه فى نهاية ولايته، ولم يكمل مساره فيه إلى النهاية بعد خسارته للانتخابات لصالح جو بايدن.
توقعات بشأن سياسة دونالد ترامب فى الشرق الأوسط
توقعات بشأن سياسة دونالد ترامب فى الشرق الأوسط