- "بيت الرعب" حين تحوّلت شوارع الإسكندرية إلى مسرح دموي
- بين قسم اللبان وسيدي عماد الجريمة التي كسرت قدسية المكان
- عظام تحت البلاط.. كيف حفر الزمن نهاية ريا وسكينة؟
طوال الرحلة الممتدة من القاهرة إلى الإسكندرية، كانت ريا وسكينة ترافقاني كظلال لا تفارق خيالي، لم تكن المسافة التي قطعتها بين المدينتين مجرد طريق معبّد بالأفكار، بل سردابًا عميقًا أغرقني في تفاصيل أشهر ثنائي إجرامي في تاريخ مصر.
حين وصلت إلى حي اللبان شعرت أنني أخطو داخل الزمن، كأن الشوارع ما زالت تحفظ أصداء صرخات الضحايا وآهاتهن المكتومة تحت الأرض.
هنا، في شارع "ماكوريس" سابقًا، و"محمد يوسف" حاليًا، يقبع منزل ريا وسكينة، كتلة صامتة من الحجارة البالية، شاهدة على الحكايات التي تُروى بنصف همسة خوف.
الحي الذي لا ينسى
حي اللبان، في قلب الإسكندرية الشعبي، يبدو وكأنه توقف عن الزمن، لم تتغير كثيرًا ملامحه منذ أيام المماليك حتى الآن، ورغم حداثة الورش والمحلات التجارية، إلا أن عبق التاريخ يلف المكان، الشوارع الضيقة تحكي قصص أناس مرّوا من هنا، وبينها حكاية الرعب التي كتبها الثنائي الشهير.
الزميل محمود عبد الراضي مع احد جيران منزل رايا وسكينة
منزل الموت
يقع منزل ريا وسكينة في شارع جانبي ضيق، يبدو كبيت عادي لأول وهلة، لكنه كان يومًا مقبرة جماعية لسبع عشرة امرأة، دفنت أجسادهن تحت الأرض، وسُرقت أرواحهن دون رحمة.
لم يترك الزمن للمنزل الكثير من الهيبة، بل جعله أطلالًا تشهد على بشاعة الجرائم التي ارتُكبت داخله.
"الدلالة".. البداية البريئة للوحشية
كانت ريا وسكينة تعملان في "الدلالة"، مهنة تتطلب التجوال بين البيوت لبيع الأقمشة والعطور، إلا أنهما اختارتا أن يخرجن عن المألوف، مستدرجتين النساء إلى منزلهما بحجة عرض مزيد من البضائع.
وفي اللحظة التي تُغلق فيها الأبواب، يتحول البيت إلى مسرح دموي، وأجساد النساء إلى ضحايا لمخططات إجرامية محكمة.
لافتة بعنوان قصة ريا وسكينة
سيرة القتل والمال
استقطبت الشقيقتان ضحاياهما من سوق "زنقة الستات"، حيث تعج النساء بالأحاديث والتجوال، كانت الريبة غائبة تمامًا عن عيونهن حتى اللحظة الأخيرة. ففي كل مرة كانت "المقبرة" تمتلئ بجثة جديدة، تتكفل أعمدة البخور بإخفاء الرائحة الكريهة عن أنظار قسم اللبان، القابع على بعد خطوات معدودة.
صحفي اليوم السابع مع عم متولي أمام منزل رايا وسكينة في الإسكندرية
عم متولي: حارس الذاكرة الشعبية
جلست مع عم متولي، أقدم سكان الحي، وراوي الحكايات المأساوية، حكى لي عن الجرائم وكأنها حدثت أمس، أشار إلى مواقع شقق القتل المتعددة، وذكرني بكيفية استغلال الشقيقتين انشغال الإسكندرية في مظاهرات طرد الإنجليز لتنفيذ جرائمهما في هدوء.
"كانتا تجلسان فوق جثثهن وتأكلان"، قالها عم متولي بنبرة لم تخلُ من الاشمئزاز، وكأن الجدران ما زالت تحمل أصداء تلك اللحظات.
خيط الجريمة.. شرارة النهاية
بدأ سقوط الشقيقتين عندما عثر أحد عساكر الدورية على بقايا عظام امرأة أثناء حفر غرفة، تلا ذلك بلاغات متفرقة عن اختفاء سيدات، لتتجمع خيوط الجريمة ببطء.
الخيط الأخير جاء عندما أصر اليوزباشي إبراهيم على تفتيش غرفة ريا، ليجد عظامًا مدفونة أسفل بلاط حديث العهد، فألقت الشرطة القبض على المجرمتين.
صورة قديمة معلقة على حائط منزل رايا وسكينة
"وحياة سيدي عماد"
كانت ريا وسكينة تحلفان دومًا باسم "سيدي عماد"، الولي المدفون في مسجد قريب، قيل إنهما اختارتا السكن بجواره تبركًا، لكنهما حولتا الحي الآمن إلى بقعة من الجحيم.
وبين التناقض المريع بين حلفهما باسم الولي وجرائمهما، ترقد حقيقة النفوس البشرية المتشابكة.
في قفص الاتهام: نهاية الشر
أمام المحكمة، واجهتا مصيرهما ببرود غريب، فريّا لم تكف عن ترديد "أودعتك يا بديعة عند الله"، بينما أصرت سكينة على "الجدعنة"، معلنة أنها "بتشنق محل الجدعان"، لم يكن ثمة مبرر للرأفة هذه المرة؛ لا شرف، لا ثأر، فقط طمع ودم بارد.
وثيقة إعدام رايا وسكينة
إعدام استثنائي
في صباح بارد من ديسمبر 1921، تجمع حشد كبير أمام سجن الحضرة بالإسكندرية ليشهد إعدام السيدتين، كانت هذه المرة الأولى التي تنفذ فيها مصر حكم الإعدام ضد نساء.
جاءت ريا أولًا، مرتدية الأحمر، خائرة القوى، بينما جاءت سكينة بعدها أكثر شجاعة، تتحدث وتتحرك بحيوية قبل أن تُعلق في حبل المشنقة.
الدرس الأخير
يومًا بعد يوم، يزداد عدد زوار منزل ريا وسكينة، الذي تحوّل إلى مزار شعبي يحمل صورًا ووثائق تؤرخ لهذه الجرائم، ربما أراد الناس أن يتذكروا أن الشر مهما طال، نهايته حتمية.
وأنا أغادر حي اللبان، لم أكن أشعر بالخوف بقدر ما شعرت بمرارة، كيف يمكن للإنسان أن يغوص إلى هذا القاع المظلم؟ وبينما نظرت خلفي إلى المنزل للمرة الأخيرة، أدركت أن القصص الحقيقية لا تتركنا أبدًا، بل تسكننا، وتصبح جزءًا من وعينا الإنساني.
يظل التاريخ شاهدًا على أن الجريمة لا تكتمل أبدًا، وأن الزمن، مهما بدا صامتًا، لا يترك الأسرار طي الكتمان طويلاً.