ـ مسعفون: حملنا الجرحى فوق الأكتاف وكنا نسابق الزمن لإنقاذهم.. والقصف مستمر فى الجنوب.. وعرقلة قوات الاحتلال ونقص المعدات أبرز التحديات
مسعفة: سنظل لآخر نفس مثابرين ومستمرين في مهامنا
ـ متطوعة مصابة ووالدها شهيد: على العالم أن يسمع صرختنا..صرخة وجع من قلوب أحرقها الألم
ـ متطوعون بالدفاع المدنى بـ"الضاحية"أكثر المناطق التى شهدت دموية يروون لحظات مواجهة الموتك نواجه الموت ولا نخشاه
ـ أحد مصابى "الدفاع المدنى": واصلت العمل رغم إصابتى.. ومازلنا فى الميدان
ـ إخصائية نفسية ببيروت لليوم السابع: آثار عنيفة ممتدة تتركها الحرب على المسعفين
ـ متطوعة بالدفاع المدنى: يوم اغتيال حسن نصرالله بالضاحية كان الأكثر صعوبة..مئات الاستغاثات تصرخ في وقت واحد "انقذونا" !
ـ متطوع لـ"اليوم السابع": في مشهد مروع أخرجنا طفلين من تحت الأنقاض وأياديهما متشابكة أحدهما استشهد والآخر حياً
ـ الصليب الأحمر لـ"اليوم السابع": لدينا 18 جريحا..مازلنا نعمل بالجنوب..هناك 72 قرية لا نتمكن من الدخول إليها
ـ "أطباء بلا حدود" لـ"اليوم السابع": لا حماية لعناصر العمل الإنسانى داخل لبنان وغزة
ـ مسئول بالدفاع المدنى لـ"اليوم السابع": واجهنا نقصا فى سيارات الإسعاف نتيجة قصفها والمعدات
ـ مديرة مستشفى بـ"النبطية": لم أرَ ابنتى مدة 66 يوما.. نستمد قوة الصمود من الفلسطينيات..ما زلنا نعمل والطيران يحلق فوق رؤوسنا
ـ الدكتورة منى: استقبلنا 678جريحًا و180 شهيدًا خلال شهرين ..واجهنا تحدى تأمين المحروقات بعد انقطاع الكهرباء عن المستشفى
ـ ممرضة: عشت وبناتى فى المستشفى طوال فترة الحرب لأداء رسالتى.. كنا نتوقع الموت فى أى لحظة ..استقبلنا جثامين أفراد من عائلتنا وجيراننا وأصدقائنا فى موقف مروع
ـ مسئول بوزارة الصحة لـ"اليوم السابع": توفير طرق آمنة لنقل الجرحى أبرز التحديات التى واجهناها..الوزارة بصدد الانتهاء من إعداد خطة إعادة الإعمار وجارى حصر الخسائر
ـ الدكتور جوزيف حلو: نتخوف من عودة الحرب وطورنا خطة الطوارئ لمواجهة السيناريو الأسوأ..لدينا مخزون أدوية يكفى لـ3 أشهر
ـ الحلو: مصر أول من ساندنا..المستشفى الميدانى المصرى أدى دورا مهما خلال الحرب
ـ نقيب أطباء لبنان (طرابلس): إسرائيل انتهكت ميثاق جنيف الذى يحظر التعرض للطواقم الطبية وقصف المستشفيات في صمت م نالمجتمع الدولى..خسائر القطاع الصحى بالجنوب والبقاع تتجاوز الـ 500مليون دولار
ـ رئيس نقابة المستشفيات: المستشفيات كانت على الرمق الأخير لولا اتفاق الهدنة..ونخشى استئناف الحرب
ـ رئيس "الدفاع المدنى" بقضاء جبيل لليوم السابع: مهمتنا مواجهة المجهول
ـ طفل لوالده المسعف: "انت رايح على الخطر ..ارجع يا بابا"
ـ مسعف مصاب بقنابل الفسفور لـ"اليوم السابع": أعتذر عن بشاعة صورى! ..جارتى استشهدت بعد تعثر وصول سيارة الإسعاف لها
ـ أطباء لـ"اليوم السابع": اضطررنا لإجراء جراحات خارج غرفة العمليات.. واصلنا العمل ولم نميز بين الليل والنهار
ـ رئيس أحد مراكز الدفاع المدنى بالجنوب: أحرقوا بساتين الزيتون وكروم العنب..لم يبقوا حجرا على حجر الكل أصبح رامادا..مازلنا نعمل تحت النيران
إحصائيات
3961 شهيدا و16520 مصاباً وفق (وزارة الصحة اللبنانية)
1000 شهيد في لبنان خلال شهر نوفمبر فقط، وفق (وزارة الصحة)
222 شهيداً و199 جريحاً من عناصر الأطقم الطبية جراء الحرب، وفق (منظمة الصحة العالمية)
31 شهيداً و72 مصابا من عناصر الدفاع المدنى اللبناني (وفق مديرية الدفاع المدنى)
10مستشفيات خارج الخدمة فى لبنان طبقا لـ(وزارة الصحة)
23 مركزاً للدفاع المدنى تعرض للتدمير الكلى والجزئى، وفق(مديرية الدفاع المدنى)
35 سيارة إسعاف تعرضت للتدمير الكلى والجزئى
137 هجمة على المرافق الصحية في لبنان
تضرر 70 مستشفى وما يزيد عن 100 مركز صحي بسبب الاستهدافات
4679 مهمة إطفاء و3534مهمة إسعاف و585 مهمة إنقاذ نفذها الدفاع المدنى
عقارب الساعة تقترب من السادسة مساءً بتوقيت بيروت، يوم الثلاثاء الموافق 17 سبتمبر الماضى؛ ليحدث الانفجار السيبرانى الأول من نوعه فى لبنان، التى عُرفت بـ"تفجيرات البيجر"، ونتج عنها أكثر من 4000 إصابة و42 قتيلاً فى يوم واحد.
و"البيجر" هى أجهزة لاسلكية صغيرة كان يستخدمها عناصر "حزب الله" لإرسال واستقبال رسائل نصية قصيرة أو تنبيهات داخلية، حيث إنها أقل عُرضة للاختراق بعكس الهواتف المحمولة، ثم أعقبتها تفجيرات أجهزة "آى كوم" فى اليوم التالى.
دماء ضحايا تلك التفجيرات الصادمة كانت إيذانًا ببدء المرحلة الأكثر دمويةً فى لبنان، مُترافقةً مع تصعيد دراماتيكى متسارع للأحداث؛ بينما لوحة التحكم فيها كانت بأيدى أطراف إقليمية ودولية.
هُنا تعود بنا الذاكرة إلى التوقيت نفسه من يوم ثلاثاء أيضاً؛ لكن تاريخه يوافق الرابع من أغسطس عام 2020، يوم كارثة انفجار مرفأ بيروت، الذى وقع بينما كانت عقارب الساعة تقترب من السادسة أيضاً.. وكأن بلاد الأرز على موعد مع هذا التوقيت المشؤوم، فها لبنان يُفجع مرة أخرى، بفارق زمنى أربع سنوات تقريباً بين الانفجار الكارثى الذى طال المرفأ وانفجار الأحداث التى غيرت المسار فى لبنان، وإن كانت تفجيرات "البيجر" أكثر فتكًا من تفجيرات المرفأ، وفق وزارة الصحة اللبنانية.
أخذت الأحداث منحنى تصاعديًا إلى أن جاء يوم الـ27 من سبتمبر2024.. يوم اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، فى غارة عنيفة شنها طيران الجيش الإسرائيلى على مقر الحزب فى حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت، والتى استخدمت فيها 10 قنابل خارقة للتحصينات تزن 2000 رطل (طنين) وذلك بعد سلسلة من الاغتيالات التى طالت كبار القادة فى صفوف الحزب.
كان اغتيال نصر الله محطة فارقة فى مسار التصعيد الدامى فى لبنان؛ فبعد اغتياله اندلعت موجة عنيفة من الغارات الجوية والاستهدافات التى طالت أنحاء لبنان كافةً.
ففى الأول من أكتوبر الماضى، أى بعد اغتيال نصرالله بأيام معدودة أعلن جيش الاحتلال التوغل البرى، ودقت طبول الحرب رسمياً على لبنان؛ ليتضاعف نزيف الجسد اللبنانى فى سيناريو أشبه بسيناريو "غزة" حيث بلغ عدد الشهداء 3961 شهيدا و16520 مصابا بينهم من لا يزالون ينتظرون التعافى، إضافة إلى 33758 نازحاً، ومئات المنازل المهدمة.
لم تستثن تلك الحرب الغاشمة أحداً؛ فالجميع أصبح مشاركاً فى دفع الفاتورة الممهورةً بدماء اللُبنانيين.
نتناول فى هذه السلسلة من التحقيقات نماذج ممن تحملوا النصيب الأكبر من فاتورة حرب لبنان؛ فدفعوا الأثمان الأغلى، ولم تقتصر معاملة الدفع على المنازل ومصادر الرزق فحسب؛ بل كانت المعاملة بالعملة الأغلى على الإطلاق (الدم والروح والنفس المحترقة حزنًا وألمًا) فتعانقت روائح دماء الشهداء الزكية مع أدخنة كروم العنب وبساتين الزيتون المحترقة بقنابل الفسفور فى الجنوب.
تشمل هذه النماذج جنود الجيش الأبيض (أطباء وممرضين)، وعناصر الإنقاذ والإسعاف الذين يعملون فى الميدان تحت القصف، إضافة إلى الأطفال وذوى الهمم، الذين فرضت الحرب أعباءً مضاعفة على أجسادهم الضعيفة، والنازحين أيضًا ممن تحملوا معاناة التهجير من منازلهم هربًا نحو المجهول..والصحفيين والإعلاميين (عين الحقيقة)الذين يتحملون المخاطرة بحياتهم؛ لفضح جرائم الحرب أمام أعين العالم، محتمين بسلاح القلم وسترة الصحافة.
فى هذا التحقيق نُسلط الضوء على أكثر الفئات التى تحملت المخاطر من أجل إنقاذ الآخرين؛ إنهم عناصر الدفاع المدنى (إطفائيون ومسعفون ومنقذو العالقين تحت الأنقاض) ومسعفو الصليب الأحمر اللبنانى، وجنود الجيش الأبيض (أطباء وممرضين)؛ الذين وضعوا أرواحهم تحت الطلب؛ من أجل إنقاذ الضحايا؛ فى صمود وإصرار على إكمال الرسالة الإنسانية الأسمى، غير مكترثين بالمخاطر؛ تحدثنا إلى نماذج عملت بالضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب اللبناني وبعلبك وهى المناطق الأكثر تعرضًا للقصف الإسرائيلي؛ للتعرف على تجاربهم والتحديات التي واجهوها، ولا يزال بعضهم يعمل فى الجنوب الذى يشهد قصفاً من قبل العدوان، رُغم دخول لبنان تحت مظلة اتفاق وقف إطلاق النار منذ الـ27 من نوفمبر الماضى.
تحدثنا أيضاً إلى عدد من المصادر ذات الصلة، للوقوف على مزيد من تفاصيل تلك المرحلة وتحدياتها والخسائر التي خلفها العدوان، وأيضًا الأوضاع الحالية بالنسبة للكوادر الطبية والمستشفيات وخطط إعادة الإعمار في الفترة المقبلة، وغيرها من المحاور نطرحها تفصيلا في هذا التحقيق..
66 يومًا لم أرَ ابنتى!
ينص القانون الدولى على تأمين الحماية العامة وخصوصاً للمواقع المدنية وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لاتفاقيتي جنيف لعام 1977 ولاهاي لعام 1954.
وتحظى المستشفيات بحماية خاصة في اتفاقية جنيف الرابعة؛ إذ لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية التي تقدم الرعاية للجرحى والمرضى والعجائز والنساء، حيث يوجب القانون احترام هذه المستشفيات وحمايتها، وعدم التعرض لها إلى جانب اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قانون ينص على أن منطقة المستشفى أو أي ملجأ مماثل لا ينبغي أن تكون هدفا للعملية العسكرية.
وفى هذا الصدد يقول الدكتور محمد صافى، نقيب أطباء لبنان (طرابلس)، لـ"اليوم السابع"، لقد انتهكت إسرائيل ميثاق جنيف الذى يحظر التعرض للطواقم الطبية وقصف المستشفيات سيارات الإسعاف أثناء الحروب، ولم يتحرك المجتمع الدولى أمام هذا الانتهاك الصارخ، نتمنى أن يصمد اتفاق وقف إطلاق النار وألا يعود نزيف الدماء إلى لبنان.
تُخبرنا آخر تقديرات صادرة عن وزارة الصحة اللبنانية بأن 222 شهيداً و199 جريحاً من عناصر الأطقم الطبية قد سقطوا جراء الحرب فى لبنان حتى الـ27 من نوفمبر، تاريخ وقف إطلاق النار، وارتفع عددهم حتى الآن إلى 330 مصاباً.
توضح الوزارة لـ"اليوم السابع" أن الأطقم الطبية وسيارات الإسعاف تعرضت لقصف عشوائى غير مسبوق في لبنان؛ ما ألحق خسائر كبيرة بالقطاع إضافة إلى عرقلة عملية نقل الجرحى أيضًا؛ فى انتهاك واضح لميثاق الأمم المتحدة الذى يجرم الاعتداء على الطواقم الطبية.
يضيف الدكتور جوزيف حلو، مسئول العناية الفائقة بوزارة الصحة، قائلا: كنا نلجأ للتنسيق من خلال الصليب الأحمر واليونيفيل، لمحاولة توفير طرق آمنة وممهدة لنقل الجرحى إلى المستشفيات، وكان هذا أصعب تحدٍ.
وبالنسبة لوضع القطاع الصحى حالياً، يقول الحلو لـ"اليوم السابع"، إن الدمار كبير وهناك 10 مستشفيات خارج الخدمة جراء الحرب منها 4 بالجنوب؛ تكتنفنا مخاوف عودة الحرب مرة أخرى، لذلك طورنا خطة الطوارئ لمواجهة أي سيناريو مفاجئ.
آثار العدوان على المستشفيات
تقول منظمة الصحة العالمية، إن هناك 137 هجمة وقعت على المرافق الصحية في لبنان، وهناك 70 مستشفى وما يزيد على 100 مركز صحي لحقتها أضرار، وقالت إن نسبة المتوفين من العاملين الصحيين قد فاقت نظيراتها خلال الفترة من 8 أكتوبر 2023 إلى 18 نوفمبر 2024 فى بلدان أخرى مثل أوكرانيا وغزة خلال الفترة نفسها.
المشهد الدامى، والذى لا يزال يُرخى بظلاله على الجنوب اللبنانى، ترسم تفاصيله لنا، الدكتورة منى أبو زيد مدير مستشفى النجدة الشعبية فى النبطية جنوب لبنان، واحد من المستشفيات التى استقبلت العدد الأكبر من جرحى الجنوب الذى شهد استهدافًا كثيفًا من قبل جيش الاحتلال، قائلةً: "الحياة لم تعد إلى الجنوب حتى الآن، ما زلنا نعيش أجواء الحرب، ما زلنا نستقبل شهداء، ولا تزال الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق رؤوسنا، وبالرغم من ذلك نحاول إعادة تأهيل المستشفى، كما أننا نضطر إلى الانتقال لمدن أخرى مثل "صيدا" لاستيفاء احتياجاتنا الأساسية، فكل شيء هنا أصبح مدمراً.
يصنعون الخبز فى المستشفى اثناء الحرب
تصف "منى أبو زيد" بكلمات يغلفها الحزن وأنفاس متقطعة، معاناتها أثناء الحرب، قائلةً "لم أرَ ابنتى الوحيدة طيلة 66 يومًا، حيث كانت الغارات على أشدها فى الجنوب، وعدد الجرحى الذى يفد إلينا كان هائلاً، ومحيط المستشفى يتعرض للقصف؛ بينما الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه منقطعة عن المستشفى"
مع اشتداد الغارات نزحت ابنة الدكتورة منى مع جدتها إلى الشمال وبقيت هي وحيدة بالجنوب تواصل أداء واجبها المهنى والإنسانى.
عن تلك اللحظات تقول منى أبو زيد: "نحن بمنطقة شمال نهر الليطانى، وهى من أكثر المناطق التى شهدت قصفا وحشيا، وفى 23 من سبتمبر الماضى اشتد القصف على المنطقة، فاضطررت لإجلاء ابنتى ووالدتى إلى شمال لبنان، في تلك اللحظات كان الألم والخوف يعتصر قلبى، لفراق ابنتى وأنا لا أعلم مصيرها وإذا كنت سأراها ثانيةً أم لا، وكأننى أرسلها للمجهول خاصًة أن والدتى مسنة ومريضة وتحتاج رعاية خاصة؛ لكن كان عليَّ الاختيار بين واجبى المهنى وبقائى مع أسرتى، فاخترت البقاء فى المستشفى أقوم بواجبى إلى جانب زملائى.
بعد عدة أيام تلقيت اتصالاً مقتضباً من ابنتى، انفجرت في البكاء وهى تقول لى:" ماما أنا خايفة.. اشتقتلك.. امته هاشوفك"
لقد شن العدو غارة عنيفة، فانقطع الاتصال بين "منى" وابنتها، وبقيت الكلمات فى أذنيها، تؤلم روحها.
سألتها كيف استطعتِ التغلب على غريزة الأمومة وحسم اختيارك؟ بادرتنى "منى" بالإجابة: "إن شعار المستشفى معا من أجل الإنسانية، كما أننا نستمد قوة الصمود من الفلسطينيات اللاتى يقدمن فلذات أكبادهن شهداء على مدار عام كامل، وهن صامدات من أجل أرضهن ووطنهن، لقد أصبحن قدوة لنا وللعالم، فكيف لى أن أتخلى عن واجبى تجاه أبناء وطنى؟!
عمليات الانقاذ
إلى جانب الألم النفسى والقلق لفراق الأهل، كانت هناك معاناة أخرى قاستها "منى"، حيث إن الحياة داخل المستشفى طوال هذه المدة، حملت الكثير من التحديات؛ خاصة مع عدم توفر المياه والغذاء اللازمين للطواقم الطبية، وانقطاع الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمازوت اللازم لتشغيل "الجينيريتور"
تقول "منى أبو زيد": اضطررنا لإخلاء الطوابق العليا من المستشفى؛ حفاظا على حياة المرضى والمصابين، حيث تعرض المستشفى للقصف عدة مرات، وزاد الضغط علينا، بعد أن أغلق الجيش الإسرائيلى المستشفيات جنوب الليطانى وهى 5 مستشفيات؛ فلجأنا إلى نقل الحالات "الباردة" التى تتحمل الانتقال إلى مستشفيات صيدا وبيروت .
وتتابع: ضمن التحديات التي واجهتنا هى استيعاب أعداد الجرحى المتزايد، والتعامل مع الإصابات البالغة، خاصة الحروق بمادة الفسفور، وتأمين المحروقات اللازمة لتشغيل أجهزة المستشفى؛ فكنا نحتاج 10 آلاف ليتر مازوت كل 10 أيام، ساعدنا فى ذلك "الصليب الأحمر" ومنظمة الصحة العالمية، واضطررنا لتخفيض الاستهلاك من 4000 إلى 1000 لتر يوميًا.
سارة
الإقامة فى المستشفى كانت خيار "سارة سلوم" أيضا، مسئولة طاقم التمريض فى أحد مستشفيات الجنوب اللبنانى..
لقد قررت سارة منذ سبتمبر الماضى ألا تترك واجبها الإنسانى لمداواة الجرحى وإسعافهم، وبالرغم من أنها أم لطفلتين تبلغان من العمر 6 سنوات و10 سنوات؛ إلا أنها رفضت النزوح من الجنوب، وقررت أن تقيم وطفلتاها فى المستشفى طوال فترة الحرب.
تصف سارة لـ"اليوم السابع" أولى لحظات القصف العشوائى التى بدأت صباح يوم 23 من سبتمبر، فتقول: كان يومًا عاديًا حيث توجهت فى العاشرة صباحا إلى المستشفى، وفى تمام العاشرة والنصف حدث ما يشبه الانفجار الشديد وكأن الأرض تهتز تحت قدماى، ورأينا حزامًا ناريًا يطوق المنطقة؛ فانطلقت مسرعًة إلى ردهة المستشفى، كان زملائى والمرضى جميعهم يهرع بكل اتجاه.
أول شيء فكرت فيه هو بنتاي، فذهبت مسرعةً للاطمئنان عليهما، ثم عدت إلى المستشفى وهما معي ومنذ ذلك اليوم لم نغادره، حتى توقفت الحرب.
تصف سارة تلك الأيام، فتقول "الكلمات لا يمكن أن تصف صعوبة تلك الأيام؛ فالعمل كان متواصلاً 24 ساعة داخل غرف العمليات، لا أرى بنتيّ إلا المساء، تعرضنا للقصف عدة مرات، مع كل غارة كنا نهرع نحو الجرحى أولًا للاطمئنان عليهم، ثم أنزل للطابق الأول للاطمئنان على بنتيّ؛ فأجدهما تبكيان فى حالة هلع؛ ورغم أننا كنا نتوقع الموت فى أى لحظة إلا لم أفكر فى النزوح، لقد كنت مسئولة عن 30 ممرضاً وممرضة وعلىَّ أن أشجعهم وأعطيهم الدعم، هذا تطلب منى التجلد أكثر.
وتستكمل سارة الحديث عن تجربتها، قائلةً: "كنا نعد الطعام ونصنع الخبز فى المستشفى مع زميلاتى ممن قررن أيضًا الإقامة فى المستشفى، وبنتاي تلقيتا التعليم أونلاين".
وتستطرد سارة قائلة: "كان يوم قصف مركز البلدية وسوق النبطية من أصعب الأيام التى مرت علينا، فعدد الشهداء كان كبيرا، وتدفق نقل الجرحى على المستشفى، كثيرون استشهدوا فى الطريق، كان من بينهم أصدقاء وجيران لنا".
وعن الأوضاع بعد الحرب، تقول سارة: "فى اليوم الأول لخروجنا من المستشفى بعد توقف الحرب، أُصبنا بصدمة لما شاهدناه من دمار مروع لمنازل جيراننا وأهلنا والمحلات التى كنا تردد عليها، وأول عبارة قالتها بنتى وهى تبكى:" ماما هدموا كل البيوت، كل اللى بنحبهم ماتوا"!
"ما زلنا لا نشعر بالاستقرار، نترقب ماذا بعد انتهاء الهدنة ونخشى استئناف الحرب، الطيران يحلق فوق لمستشفى ولا يزال التعليم عن بعد، والحياة لم تستعد ملامحها هنا فى الجنوب"، تلخص "سارة" الحياة في الجنوب حالياً.
تقول الدكتورة نيكول الإخصائية النفسية بلبنان، إن الطبيبات والممرضات بحكم عملهن ووجودهن في قلب الحدث وتعاملهن المباشر مع المصابين وتكرار مشاهد الاستشهاد أمام أعينهن، قد يصبن بصدمات عصبية عنيفة ونوبات هلع، وهلوسة سمعية وبصرية، وكل هذا يؤثر بالتأكيد على تعاملهن مع أطفالهن وعائلاتهن، فيصبحن غير قادرات على التعامل معهم بشكل طبيعي.
"أياما توقفنا فيها عن النظر للساعة، أصبحت العمليات سلسلة لا تنتهى"، هكذا يصف الدكتور وسيم الصمد، أحد جراحى العيون فى مستشفى هيكل بطرابلس، الضغط الذى عمل تحت فريق الفريق الصحى جراء الحرب ومن قبلها انفجارات أجهزة "البيجر"، التى نتج عنها أكبر عدد إصابات شهده لبنان فى يوم واحد (4000 جريح) مضيفا: أجريت ما بين الـ17 والـ20 عملية خلال 24 ساعة دون توقف، كنا نعمل لـ48 ساعة متواصلة، كانت الإصابات بالغة وجُلها بمنطقة العينين وأصابع اليدين والفخذ، وما زالوا يخضعون للمتابعة الطبية، أيضا واستقبلنا عددا كبيرا من جرحى الجنوب فى مستشفيات شمال لبنان.
الدكتور وسيم الصمد
الدكتور علي العواركه رئيس قسم الطوارئ فى مستشفى النجدة الشعبية، يقول لـ"اليوم السابع"، إنه لا يزال يعانى آثار الحرب المدمرة، ليس هو فحسب بل إن هناك عشرات المرضى الذين أصيبوا بأمراض القلب والصدمات النفسية جراء تداعيات الحرب وبيوتهم التى دُمرت وأرزاقهم التى قُطعت، يقول الدكتور علي: يوميا يتوافد على المستشفى أعداد كبيرة من أهالى يعانون أمراضا جراء الحرب، مشيرا إلى أنه وطاقم المستشفى واصل العمل لأيام متتالية؛ لدرجة لم نفرق بين الليل والنهار، كنا نجرى عمليات فى ممرات وغرف عادية لكثرة الضغط، وكثيرا ما تعرضت سيارات الإسعاف الناقلة للجرحى للقصف، فالشباب المسعفون كان "دمهم على كفهم"
وبالرغم من عدم استقرار الأوضاع في الجنوب إلا أن وزارة الصحة بصدد إعداد خطة إعادة إعمار ما دمرته الحرب ـ يقول الحلو لـ"اليوم السابع" ـ وجارى الآن حصر شامل للخسائر لتحديد الميزانية المطلوبة بدقة وستنفذ الخطة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ودعم عدد من الدول في مقدمتها مصر التى كانت أول المساندين للبنان فى محنة الحرب، مشيرا إلى أن المستشفى الميدانى المصرى ببيروت قد قدم خدمات طبية أثناء الحرب ولا يزال يقدم للأعداد المتبقية من النازحين خدمات صحية متنوعة.
يقول الدكتور سليمان هارون رئيس نقابة المستشفيات في لبنان، لـ"اليوم السابع"، إن لبنان به 130 مستشفى و500 مركز صحى، والمستشفيات المتضررة تضررا جزئيا بدأت العودة تدريجيا إلى العمل واستقبال المرضى. وحذر هارون من كارثية الوضع حال استئناف الحرب، قائلا "المستشفيات كانت على الرمق الأخير لولا اتفاق الهدنة. ونخشى استئناف الحرب، فالقطاع قد استنزف ولن يحتمل ضغوطا أخرى.
وأكد هارون، تمت مناشدة المجتمع الدولي أكثر مرة لاتخاذ التدابير اللازمة لوقف هذا العدوان وإبعاد القطاع الصحي والمستشفيات بكل طواقمها العاملة مع المرضى عن هذه الاعتداءات، تطبيقاً للقانون الدولي لكن دون جدوى.
ويضيف الدكتور محمد صافى ـ نقيب أطباء لبنان (طرابلس)، أن القطاع الصحى يحاول مداواة جراحه، لكن الخسائر جمة ، حيث إن قيمة خسائر القطاع الصحى بالجنوب والبقاع تتجاوز الـ500 مليون دولار.
مستشفى بالنبطية
بقعة الدم..
لم تقتصر التضحيات على الأطباء والممرضين فقط، بل شملت المسعفين والإطفائيين الذين عملوا في مواقع الغارات؛ فكانوا الأكثر عرضة للخطر.
وسلط مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الضوء أيضاً على الانتهاكات التى يتعرض لها عمال الإغاثة وإسعاف الضحايا والعاملون في مجال الصحة في لبنان، والهجمات المكثفة التي طالت العديد منهم، مؤكدا أن هذا يُمثل انتهاكًا صارخاً للقوانين الدولية؛ مشيرًا إلى الضاحية الجنوبية لبيروت كأكثر المناطق تعرضًا للغارات.
في هذا الصدد أيضاً، تقول منظمة أطباء بلا حدود" لـ"اليوم السابع" لقد واجه عناصر أطباء بلا حدود مخاطر كبيرة بسبب الغارات الجوية المستمرة والمخاوف الأمنية التي أعاقت قدرتهم على العمل في المناطق الأكثر تضررًا، لا سيما في الضاحية الجنوبية لبيروت، جنوب لبنان وبعلبك.
"لا يزال الوضع الأمني في لبنان غير مستقر رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار؛ ما يفرض مخاطر كبيرة على العاملين في المجال الإنساني، وتحديات في العمل الإنسانى، خاصة حرية الحركة في الجنوب اللبناني الذى لا يزال يشهد اضطراباً"، تقول "أطباء بلا حدود".
ويؤكد الدكتور علي المحمد المسئول الطبى للطوارئ في "أطباء بلا حدود"، أنه بالرغم من أن السيارات التابعة لنا تحمل شارات المنظمة إلا أن هذا لم يكفل الحماية لعناصر العمل الإنسانى ، للأسف أطراف الصراع سواء في لبنان أو غزة لا تلتزم بالمواثيق الأممية والاتفاقيات الدولية التي تنص على تحييد وحماية العاملين في المجال الإنسانى، وعدم تعريضهم للقصف، لأن هذا يعيق القدرة على الوصول للضحايا، كما اضطررنا لإغلاق العيادة بمخيم برج البراجنة بالضاحية ومقر آخر لنا في مدينة بعلبك، إضافة إلى توقف عدد من النشاطات الطبية بمدينة هرمل نتيجة القصف.
وتابع المحمد، قائلاً: لقد تأثر عمل فرق أطباء بلا حدود بالحرب وهم 22 فريقا و375 عنصراً؛ على المستوى الاجتماعى أيضاً؛ فالكثير من عائلاتهم أصبحوا نازحين، كما أن كثيرين منهم تضررت منازلهم وفقدوا أفرادا من عائلاتهم وعلى الرغم من هذه التحديات، أبدى العاملون في المنظمة التزامهم بتقديم الدعم الطبي والإنساني الأساسي.
نذهب للتحدث إلى العناصر التي تعمل في الميدان وسط النيران بقلوب يملأها اليقين برسالتهم السامية، علَّ هذا هو ما يبرد لهيب النيران حولهم.. إنهم المتطوعون والمتطوعات بمديرية الدفاع المدنى التابعة لوزارة الداخلية اللبنانية، الذين يقومون بمهام الإنقاذ والإسعاف والإطفاء، مُقدمين أرواحهم أثمانًا لإنفاذ الضحايا، كما تعرضت مراكزه لاستهدافات عنيفة مباشرة من قبل العدوان الإسرائيلى..
فِى واحدة من أعنف تلك الهجمات الوحشية، شن العدوان الإسرائيلي غارة على مركز بعلبك الإقليمي للدفاع المدنى فى بلدة دورس بمنطقة بعلبك شرقى لبنان، أودت بحياة 14 شهيدًا.
يقول نبيل صالحانى، مدير شعبة التدريب بـ"الدفاع المدنى" وخبير فى إدارة الكوارث لـ"اليوم السابع"، تعرضت عناصرنا للقصف المباشر، رغم وجود الشارات على سيارات المديرية والزى المميز لعناصر الدفاع المدنى، إلا أن هذا لم يحميهم، لقد ضرب العدو بعرض الحائط جميع المواثيق الدولية التى كفلتها المنظمة الدولية للدفاع المدنى لحماية عناصر الإنقاذ والمسعفين.
وليام يقوم باسعاف الجرحى
يضيف "صالحانى" أن عدد الشهداء بلغ 31 شهيداً و72 مصاباً، كما تعرض 23 مركزاً للدفاع المدنى و35 سيارة إسعاف للتدمير الجزئى والكلى، وكان التحدى الأكبر هو تكثيف الغارات مع بداية التوغل البرى فى بداية أكتوبر الماضى، فقد تزامنت عشرات الغارات فى وقت واحد، وواجهنا نقصا فى سيارات الإسعاف نتيجة قصفها، إضافة إلى التحديات النفسية للعاملين، وفى هذا الصدد هناك برامج دعم نفسى يقدمها إخصائيون وسنبدأها فيها قريبا، يضيف صالحانى.
للوهلة الأولى تظنُ أنها مهمات تقتصر على الرجال فقط؛ لكن الواقع يكاشفنا بأن العنصر النسائى ممثل تمثيلًا كبيرًا في هذا الجهاز المهم، وتأخذك الدهشة أكثر حينما تعرف أن تلك العناصر لم تتوقف عن دورها أثناء الحرب.
ثم تتسابق التساؤلات إلى ذهنك تسابقًا محمومًا حول كيفية أداء تلك المهام وسط النيران وتحت القصف؟ وما التحديات التى يواجهونها فى الميدان؟ وكيف لم تثنيهن المخاطر عن الاضطلاع بتلك المهام؟!
للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها، التقينا ـ هاتفيًا ـ عددًا من المتطوعات والمتطوعين الذين شاركوا فى عمليات إنقاذ ضحايا الغارات الجوية الإسرائيلية وإخماد النيران التى خلفتها تلك الغارات.
وجهتنا الأولى.. الضاحية الجنوبية لبيروت؛ واحدة من المناطق الشاهدة على وحشية العدوان، وكان لها النصيب الأكبر من الغارات الجوية منذ اندلاع الاشتباكات فى الثامن من أكتوبر 2023؛ ثم التوغل البرى مطلع أكتوبر الماضى..
"بحلم يرجع الأمان يسكن لبنان" هذا ليس مقطعًا من أغنية يروق لك سماعها، بل إنها كلمات حفرها الألم داخل قلب "كوثر حرب"، إحدى المتطوعات فى "الدفاع المدنى"، فكانت العبارة التى بدأت الحديث بها، ذلك الحديث الذى حمل فرحًا ممزوجًا بالألم وثقة ممزوجة بعدم اليقين فى غدٍ، ربما يرسم غيرهم ملامحه.
تقول كوثر لـ"اليوم السابع": منذ اللحظات الأولى للعدوان الشامل على لبنان كُنا فى الميدان أى منذ استهداف حسن نصرالله؛ أسرعنا لنجدة الضحايا، لم أتردد لحظة رغم أننا كنا نعمل تحت القصف المتواصل؛ فالعدو الإسرائيلى لم يستثن أحدًا حتى فتعرضت سيارات الدفاع المدني للقصف عدة مرات؛ رغم أنها تحمل بشكل واضح شارات المديرية.
وتوضح كوثر: فى البداية أسرتى اعترضت على نزولى للضاحية؛ لكن قلت لهم "عار عليا إذا كان بمقدورى تقديم مساعدة لأهلنا ولا أقدمها".
وتستكمل "كوثر"؛ حديثها قائلًة: كنا نعمل بـ"اللحم الحى"، بالطبع وقت القصف كان ينتابنى الخوف أحياناً؛ لكننى سريعًا ما كنت أتخلص من هذا الشعور، وأتذكر ثقة المستغيثين بنا وأن هناك أرواحاً عالقة تحت الأنقاض تنتظر أيادى تمتد لإخراجهم للحياة، وأحاول أيضًا أن أثبت أمام العالم أن للمرأة اللبنانية دورًا وطنيًا لا يقل عن دور الرجل.
هنا ألح على ذهنى سؤال عن سبب صمود الشعب اللبنانى وتشبثه بالحياة؛ وقوة المرأة اللبنانية بشكل خاص؛ فأجابتى "كوثر"- التى لم تتجاوز العشرينيات من عمرها ـ بسؤال "أتُلاحظين رسمة الأرزة التى يحملها العلم اللبنانى؟ فقلت لها "نعم".
"إنها رمز صمودنا وعزتنا"، قالت كوثر.. وتواصل الحديث، قائلًة: إننا نحب الحياة لعدة أسباب منها الطبيعة فى لبنان، وتنوع الثقافات وتعددها فى لبنان؛ ما أثر على تشكيل شخصيتنا وأيضًا كثرة ما شاهدنا من أحداث مؤلمة؛ فالشعب اللبنانى"اتخدر" من الوجع؛ وكان هذا دافعاً للبحث بإصرار عن سبل الحياة والفرح؛ وألا نسمح لهذا الوجع أن يهزمنا؛ لدرجة أن الشباب اختلق إفيهات على صوت الغارات الإسرائيلية!
كوثر
تضحك "كوثر" لثوانٍ، ثم تستأنف حديثها بنبرات صوت تُخبرنا بما هو أكثر مما نعتقد عن قوة المرأة اللبنانية التى لطالما كانت رمزاً وأيقونة من أيقونات الجمال فى العالم – قائلة "والدى أيضا كان متطوعا فى الدفاع المدنى؛ فتعلمت منه الشجاعة والإسراع لمساعدة الآخرين"
وعن آلية عمل عناصر الدفاع المدنى وقت الحرب، تقول كوثر: فور تلقينا الاستغاثة نجرى تقييما سريعا للمكان وقوة الغارات بها وحجم الدمار الناجم عنها لتحديد عدد العناصر والمعدات اللازمة، وبمجرد وصولنا إلى مكان الغارة نجهز قائمة بأسماء سكان العقار الذى تعرض للغارة، ثم نبدأ بعملنا للإطفاء ثم البحث عن العالقين تحت الأنقاض.
مواقف لن تمحى من ذاكرة الحرب تسردها "كوثر"؛ فتقول: أقسى المواقف على نفسى، مشهد الأمهات وهن يبحثن عن أطفالهن العالقين تحت الأنقاض ويصرخن مستغيثات بِنَا لاستخراج أبنائهن وعيونهن تحمل الرجاء بِنَا كآخر أمل لهن؛ ولكن الأصعب أننا كنا نجد بعضهم أشلاءً، تلك اللحظات الأصعب فى حياتى؛ كيف يمكننى إبلاغ الأم بهذه الصدمة!
ولن أنسى زملاء لى استشهدوا أمام عينى أثناء عمليات الإنقاذ، تقول "كوثر" وقد بدأت تجهش بالبكاء، ثم تحاول لملمة قواها لتستكمل الحديث، قائلة "كان من بين هؤلاء زميلنا "علاء قبلان" الذى استشهد فى إحدى المهمات يوم اغتيال حسن نصرالله، وهو اليوم الأكثر صعوبةً؛ فحجم الدمار والإصابات التى خلفتها الغارات كان مروعًا مئات الضحايا يصرخون مستغيثين في وقت واحد "انقذونا"!
وعن الآثار التى طبعتها تلك الأحداث المؤلمة على نفسيتها؛ توضح "كوثر" أن تلك المشاهد تترك آثارا عميقة قد تتسبب فى فقدان الشهية لفترات ونوم متقطع، أصوات الأمهات الثكلى والأطفال تحت الأنقاض يتردد صداها فى أذنىَّ.
وختمت حديثها برسالة قالت فيها: "من مواطنة لبنانية تحدثكم من أرض لبنان التى عانت كثيرًا ولا تزال..إن معركتنا ضد اللاإنسانية؛ لبنان بحاجة لدعم كل إنسان لتحقيق العدالة..نعم، خسرنا كتير فى الحرب؛ لكننى على يقين بأننا نقدر نرجع نقوم ونبنى لبنان جديد..وسنظل لآخر نفس مثابرين ومستمرين في مهامنا"
الآثار النفسية للحرب على المسعفين والإطفائيين والطواقم الطبية، تصفها الدكتورة نيكول هانى، إخصائية نفسية ببيروت لـ"اليوم السابع" بـ"العنيفة" الممتدة، وتختلف درجة عنفها وفق قوة ودرجة احتمال كل شخصية؛ حيث تتولد لدي هؤلاء مشاعر تتراوح بين الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، جراء المشاهد القاسية للأشلاء والجرحى والعالقين، كما تؤثر على اتزان الشخصية، إضافة للشعور بالذنب حال عدم القدرة على إنقاذ المستغيثين، إضافة إلى اضطرابات التركيز ونوبات الغضب.
تستكمل الدكتورة نيكول حديثها لـ"اليوم السابع"، قائلة : إن هؤلاء يتعرضون أيضًا لنوبات بكاء هيستيرية، وتختلط مشاعر الحزن بالفرح ما بين حزنهم للفشل فى إنقاذ البعض، وفرحتهم لتمكنهم من إنقاذ آخرين، والعجز عن إنقاذ العالقين يخلق ردود فعل نفسية عنيفة على المديين القصير والبعيد، سواء على مستوى الشعور أو الإدراك أو الانفعال؛ فسيطرة الشعور بالحزن والذنب يخلق مشاهد مؤلمة تظل عالقةً بالذاكرة، إضافة إلى إصابة بعضهم بهلاوس سمعية وبصرية ونوبات هلع، وهذا يؤثر على الصحة الجسدية أحيانًا، إضافة إلى تأثيرات على الجانب الاجتماعى للمنقذين.
تقول الدكتورة نيكول، إن أكثر من 60 % من المنقذين يحتاجون لخدمات الرعاية النفسية وبرامج الدعم النفسى الاجتماعى، و20% يحتاجون لعلاجات نفسية متخصصة؛ حيث تنعكس آثار تلك الساعات التى يمضونها بين الركام والجثث على سلوكهم مع عائلاتهم، حتى إن بعض الفرق تتعرض لصدمة نفسية جماعية، بعد مشاهد الجثث والدمار التى يعايشونها لأيام متواصلة.
الصليب الاحمر
مواجهة الموت.. ونقص المعدات
في إصرار دائم على أداء رسالتهم بقلوب صامدة وعيون تجاهد لإيقاف دموعها عن الجريان، ورسم ملامح على الوجوه تخفى ما بداخل النفس من مشاعر يختلط فيها الحزن بالرعب والقلق والترقب، يواجه هؤلاء المتطوعون كثيراً من الأهوال أثناء القيام بمهام الإنقاذ.
رُبما هذا ملخص حديث "وليام خطار" أحد الأعضاء ورئيس شئون المتطوعين بمديرية الدفاع المدنى بلبنان، الذى أوضح لـ"اليوم السابع" أنهم يعملون تحت القصف العشوائى، تلاحقهم نيران العدوان الإسرائيلي غير مكترثة بتلك العلامة التي تحملها سيارات الدفاع المدنى وتدل على هوية ركابها.
يقول وليام: "كنا نسابق الزمن لإنقاذ الأرواح، وفى خضم ذلك نقصف بنيران العدوان". ويستطرد وليام قائلاً: "نواجه الموت كل لحظة دون أن نخشاه لأن هدفنا إنقاذ إخوتنا اللبنانيين الذين يسقطون ضحايا الغارات الغاشمة."
وعن التحديات التي يواجهها أثناء عمله التطوعى، يقول وليام، إن هناك نقصاً شديدا في معدات الحماية الشخصية اللازمة للقيام بمثل هذه المهمات على سبيل المثال الدروع الواقية من الشظايا؛ والملابس الواقية من الحريق، وغيرها.
يضيف وليام، أن المعدات والسيارات التابعة للدفاع المدنى قديمة ومتهالكة، ونضطر لأداء مهامنا رغم عدم توفر وسائل الحماية اللازمة ؛ مما يضاعف حجم الخطر الذى نتعرض له.
هذا ما أكده أيضاً نبيل صالحانى، مشيراً إلى نقص المعدات وأدوات الحماية الشخصية اللازمة لعناصر الإطفاء والإنقاذ، ما يجعلهم عرضة لمخاطر أكبر، وأكد صالحانى:"لقد خاطبنا وزارة الداخلية بهذه المشكلة، وبدورها طلبت الدعم من جهات دولية ولكن لم يصلنا"
يؤكد صالحانى، أنه رغم المخاطر إلا أن الإقبال من المتطوعين على تنفيذ مهام الإنقاذ كان كبيراً حتى بالأماكن شديدة الخطورة، وأوضح "صالحانى"، أن هناك 238 مركزاً فى مختلف أنحاء لبنان تضم 2427 موظفا و4423 متطوعا منهم 13% إناث، جميع المراكز كانت على قلب رجل واحد أثناء العدوان، وبلغ عدد العمليات التي نفذها الدفاع المدنى أثناء الحرب 4679 مهمة إطفاء و3534 مهمة إسعاف و585 مهمة إنقاذ، حيث تتنوع مهام عناصر الدفاع المدنى بين إخماد الحرائق الناجمة عن الغارات، وتقديم إسعافات أولية للجرحى ونقلهم إلى المستشفيات، إضافة إلى البحث عن العالقين تحت الأنقاض، كما نساهم في تقديم الخدمات العامة مثل توزيع المياه على النازحين، فتم توزيع حوالى 30 مليون لتر مياه منذ بداية الحرب.
ومن أصعب ما شاهدناه ـ يقول صالحانى ـ وجود عدد كبير من الأطفال تحت الردميات وبحث عناصر الدفاع عن زملائهم الشهداء بين الركام وتحت الأنقاض، إن الاعتداءات الوحشية الإسرائيلية تجاوزت معايير الحروب التقليدية.
رايح على الخطر!
"ذات نهار، اصطحبت ابني الذي يبلغ من العمر 10 سنوات لشراء بعض الحلوى التى يحبها، وكنت عائدا للتو من عملى في إجازة قصيرة، وفجأة رن الهاتف ليبلغوني بوقوع غارة إسرائيلية على منزل به 30 فردا فى بلدة علمات ، تركت يدى ابني فجأة وهو يصرخ "بابا أنت رايح على الخطر"، وتوجهت مهرولاً نحو مكان الغارة"، يقول مخول بو يونس.
يعمل "مخول"، رئيساً إقليميا للدفاع المدني بقضاء جبيل، وسط لبنان، يعمل منذ 19 عاما بمهام الإطفاء والإنقاذ والاسعاف في مديرية الدفاع المدني، لديه طفل يضطر إلى تركه لفترات طويلة بسبب ظروف عمله.
يحدثنا "مخول" عن ظروف الحروب، قائلاً: "فرضت علينا الاشتباكات التي حصلت منذ أكتوبر 2023 ظروف عمل صعبة للغاية، وبالطبع ازدادت صعوبة منذ التصعيد سبتمبر الماضي ، فلم أرَ ابني جيدا منذ ذلك التاريخ، الغارات الوحشية المتتالية لم تمهلنا فرصةً لأخذ يوم راحة، ولم نستطع ترك مهامنا الإنسانية، فدائماً هناك من هم فى حاجة للإنقاذ"
"حُرمت من رؤية ابنى منذ بدء التصعيد، كل ما كنت أحظى به اتصال أسمع صوته معاتباً لي: "أنت وحشتني يا بابا، خايف ما أشوفك تاني، أحبك كثيراً" وهذه الكلمات لم تفارق أذنىَّ طوال الوقت، يقول مخول.
مخول
"عشنا لحظات قهرية، ففى كل مرة نذهب فى مهمة، كأننا ذاهبون لمواجهة المجهول، فالقصف عشوائي والعدو الإسرائيلي لم يستثن أحداً من نيرانه، فتعرضنا للقصف على سيارات الإسعاف والإطفاء عدة مرات"، يصف "مخول" مخاطر عاشها
بأنفاس حارقة تحمل بين ثناياها حزنا ممزوجا بالصمود والإصرار، يستكمل "مخول" سرد الأهوال التى يعايشها أثناء قضاء مهامه، قائلاً: اضطررنا فى بعض الأحيان للسير على الأقدام والركض بعد الاعتداء الوحشى على سياراتنا؛ حتى نغيث الضحايا، نهرول بكل طاقتنا وكل ما نفكر فيه وندعو الله أن نجد المصابين أحياءً وليسوا أمواتاً، كما كانت الطرق المغلقة تحديا آخر يعرقل وصولنا إلى الضحايا؛ وعندما كانت تُقصف سيارات الإسعاف كنا نحمل الجرحى فوق أكتافنا لمسافات طويلة ، نسابق الزمن حتى نصل بهم لأقرب مستشفى.
ويواصل "مخول" الحديث عن التحديات، فيقول: سقوط أعداد كبيرة من عناصر الدفاع المدنى بين شهداء وجرحى جعلنا نثابر لمساعدة الغير، رغم الحاجة لأعداد من العناصر البشرية لتعويض الخسائر، هذا بخلاف نقص المعدات والسيارات، فمراكز قضاء جبيل لديها 22 سيارة إسعاف وإطفاء و180 عنصرا بشريا.
وعن المهام التى تقوم بها عناصر الدفاع المدني، قال "بو يونس" نقوم بأعمال إطفاء الحرائق الناجمة عن القصف وإنقاذ المصابين وتقديم الإسعافات الأولية لهم؛ ثم نقلهم داخل سيارات الإسعاف إلى المستشفيات، وتشمل المهام التى نقوم بها أيضا البحث عن العالقين تحت الأنقاض، وعقب بعض الغارات نظل نعمل لعدة أيام متواصلة للعثور على العالقين، يساندنا الصليب الأحمر اللبناني.
وعن خطوات القيام بمهام الإنقاذ، يوضح مخول قائلاً: فور وصولنا لمنطقة الغارة نفرز المصابين لنعرف الحالات الحرجة والتى تحتاج لإنقاذ سريع، ونتواصل مع أقرب مستشفى لتأمين أماكن لها.
يضيف "مخول"، وضمن مهامنا أيضا المساهمة فى تقديم الخدمات العامة مثل إعادة فتح الطرق التى أغلقت بفعل الردميات، ونقل مرضى الكلى إلى مراكز الغسيل الكلوى لتلقى جلسات الغسي، توزيع المياه على النازحين، فقد استضاف قضاء جبيل حوالي 38 ألف نازح من البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب فى اثني عشرة مدرسة إضافة إلى المساجد والحسينيات، ووصلت كمية المياه التى يتم توزيعها يومياً إلى 90 ألف لتر.
وعن أصعب المواقف التى مرت عليه أثناء الحرب، يقول "مخول"، لن أنسى لهفة الأطفال وهرولتهم على السيارات التى تنقل المياه لهم، والتى لم تكن كافيةً لسد احتياجات جميع النازحين فأعدادهم فاقت قدرات سد الاحتياجات، والتى تقدم عبر لجنة إدارة الكوارث بالتعاون مع الجمعيات المدنية.
مشاهد دامية!
بين أكوامٍ من الركام وحطام منازل متهدمة، وقطع أثاث متناثرة تتداخل مع بقايا ملابس لا يمكنك تحديد هوية صاحبها بعد أن أخفت معالمها بصمات الأنقاض ودماء الضحايا.. هُنا يكتب الألم أبدع القصص، وينسجُ أصدق العبارات، من بينها ما يسرده "مخول" عن مشاهداته أثناء البحث عن الضحايا تحت الأنقاض؛ فيقول: انتشال الأطفال من تحت الأنقاض من أصعب ما يمر علينا، وفى إحدى الغارات كان هناك طفلان وأياديهما متشابكة "حيا بميت"، حيث استشهد أحدهما بينما بقى الآخر على قيد الحياة، وكان مصابا بنزيف فحملته سريعا إلى المستشفى، لن أنسى نظرات الطفل لشقيقه المتوفى.
إن هذه المواقف تظل عالقة بذهني وتمر أمام عينى دائماً، أراها حتى فى نومي، وهذا يضعنا تحت ضغط نفسي عنيف، وأحيانا يترجم هذا في شكل نوبات بكاء أو عدم الخلود للنوم لأيام متواصلة.
صعوبة الوصول
يقول ألكسي نعمة، مدير الإسعاف والطوارئ فى جمعية الصليب الأحمر اللبنانى، لـ"اليوم السابع"، إن عناصر الإسعاف والطوارئ التابعة للصليب الأحمر لا تزال تضطلع بمهامها فى الميدان فى الجنوب اللبنانى؛ فالقصف مستمر وهناك 72 قرية يوجد صعوبة من قبل قوات الجيش الإسرائيلى من الدخول إليها.
يستطرد ألكسى، قائلاً: لدينا 5200 مسعف متطوع، 40% منهم إناث، وتشمل المهام الأساسية لهم إسعاف الجرحى، ونقلهم إلى المستشفيات والبحث عن العالقين، وإجلاء السكان بالمناطق المستهدفة ، نقل وحدات دم ومعدات طبية للمستشفيات، وإيصال الوجبات الغذائية للمحاصرين فى بلدات الجنوب مثل رميش والخيام كفركلا ، وما زلنا نقوم بتوزيع الحصص الغذائية على النازحين ، وننقل جثامين الشهداء إلى الثلاجات بالمستشفيات، إضافة إلى توفير عيادات صحية متنقلة فى الأماكن التى لا تزال بدون خدمات مثل بعض بلدات الجنوب، والبقاع ، والضاحية.
مسئول بالصليب الأحمر
وعن الصعوبات التى واجهتها عناصر الصليب الأحمر، أثناء احتدام الحرب، يقول كنا نواجه صعوبات فى الوصول لعدة مناطق بسبب وعورة الطرق وتكدس الردميات أو المنع ، ومن أصعب التحديات أيضا وجود المسعفين بمناطق هُجر أهلها فبقيت من دون الاحتياجات الأساسية اللازمة لهؤلاء المسعفين؛ فضلا عن انقطاع الكهرباء والغاز عن الجنوب.
وعن آلية نقل المصابين، يوضح ألكسي، أنه كان لابد من التنسيق مع قوات اليونيفيل، وإرسال طلب إلى جيش إسرائيل للسماح لنا بالمرور، ولكن فى أحيان كثيرة ، كانت سيارات الإسعاف تضطر للتوجه فورا لمناطق الغارات دون انتظار الموافقة، ما كان يمثل مخاطرة.
وعن الخسائر التى طالت "الصليب الأحمر"، أوضح أن هناك 18 مصاباً، و4 مراكز تضررت بشكل كلى من إجمالي47 مركزا فى لبنان، إضافة إلى تضرر 10 سيارات إسعاف من إجمالي 320 سيارة و50 سيارة أصيبت بأعطال، وقد خاطبنا المقر الرئيسى للصليب الأحمر فى جنيف حول المخاطر والأضرار التي نتعرض له، لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
عودة مرة أخرى للمسعفين، فدفتر أحوالهم مليء بالحكايات التى تستحق التوقف عندها كثيرًا..
أعتذر عن بشاعة الصور!
بادرنى "أنيس عبلا" بالاعتذار عما وصفه بـ"الصور البشعة" لوجهه ويديه، حينما طلبت منه إرسال بعض الصور له لإرفاقها بالموضوع.
"عبلا" مسعف وإطفائى بمركز "جديدة مرجعيون" للدفاع المدنى جنوب لبنان، وفى سرد التفاصيل لـ"اليوم السابع"، يقول إنه أصيب بحروق بالغة بفعل تفجير جيش الاحتلال قنابل الفسفور فى منطقة بلاط بالجنوب، أثناء قيامه بإحدى مهمات الإنقاذ مع 16 مسعفا آخرين، بالقرب من مناطق الاشتباك الساخنة مع العدو.
يستكمل "عبلا" حديثه، قائلا: "نُقلت إلى مستشفى النبطية الحكومى، حيث خضعت للعلاج مدة أسبوعين، لم أتعافَ تماما ولكن بمجرد تحسن حالتى قررت العودة مسرعًا إلى ميدان العمل، وما زلت أتلقى العلاج فهذه المادة تترك أثرا بالغا على الجلد"
وعن المخاطر التى تعرض لها ، يقول تعرضنا للقصف المباشر عدة مرات، وكنا نضطر لحمل المصابين والسير بهم، كما كان جيش الاحتلال يمنع سيارتنا من الدخول لمناطق الغارات مثل الضاحية الجنوبية لبيروت حتى لا ننقذ الضحايا، وكان علينا الانتظار لحين موافقة الجيش وفى كثير من الأحيان لا تصدر الموافقات أو تأخذ وقتا طويلا ، كنا نتجه لإنقاذ الضحايا مباشرة دون انتظار؛ فكانوا يقصفونا.
فقيه
من أصعب المشاهد العالقة بذهن "عبلا"، الأمهات الباحثات عن فلذات أكبادهن تحت الأنقاض، كما لن ينسى "عبلا" جارته التي استشهدت بعد إصابتها فى إحدى الغارات وتعثر وصول سيارة الإسعاف لها.
وأكد "عبلا" لنا، أن خطر القصف لا يزال قائما فى الجنوب، قائلا: "اليوم قصفت مسيرة إسرائيلية عائلة كانوا يجلسون أمام منزلها في منطقة مرجعيون، ما أدى لسقوط شهيدين و3 مصابين، و لا تزال هناك مناطق لا يمكننا الدخول إليها، مثل الخيام وكفرشوبا وكفركايلا.
يؤكد "حسين فقيه"، رئيس مركز النبطية الإقليمى للدفاع المدنى، أنهم فى الجنوب محاطين بأسباب الموت، ولا يزال القصف يطال معظم القرى ، والبلدات.
ويوضح "فقيه" لـ"اليوم السابع"، أن هناك 21 مركزا فرعيا تابعا للمركز الإقليمى تغطى مناطق حاصبيا ومرجعيون وبنت جبيل، يعمل بهم 450 عنصرا منهم 27 سيدة، سقط منهم 13 شهيدا و27 جريحا إضافة إلى 46 أصيبوا بحرائق قنابل الفسفور، و42 سيارة إسعاف وإطفاء تعرضت للتدمير إضافة لـ6 مراكز تدمرت بشكل كلى فى قضاء مرجعيون و6 آخرين فى بنت جبيل والنبطية.
"فقيه" واحد من المسعفين الذين أصيبوا جراء القصف المباشر فى الجنوب، وعن ملابسات إصابته يقول لنا، "بينما كنت و8 عناصر آخرين ننقذ ضحايا سلسلة غارات شنها العدوان على النبطية فى أكتوبر الماضى تم استهدافنا بغارة مباشرة ، وأحد العناصر أستشهد وآخر دخل العناية الفائقة ، بينما أُصبت فى الرأس والصدر نتج عنه نزيف بالمخ والرئة".
يؤكد فقيه أنه لم يفكر لحظة فى التراجع، وبمجرد تماثله للشفاء توجه مباشرةً للمركز لمواصلة مهامه.
"أحرقوا بساتين الزيتون ومزارع العنب والتين، لم يبقوا حجرا على حجر الكل أصبح رامادا، ملامح الجنوب مُحيت"، هكذا يصف "عبلا" ما فعله العدوان بالجنوب، مشيرا إلى الاعتداءات الكارثية بالقنابل الفسفورية والتى يقول إنها تجاوزن الـ10 اعتداءات منذ أكتوبر2023.
توقف "فقيه" عن حديثه معى فجأة، وسط سماع أصوات انفجارات مدوية، ليخبرنى بأن غارة شنها الجيش الإسرائيلي على مقربة من المركز، ثم انقطع الاتصال.
عبلا عقب إصابته بقنابل الفسفور
صرخة وجع!
بحثت عن أسر أحد شهداء الدفاع المدنى، من بذل حياته لأجل إنقاذ الآخرين وهى أقصى درجات التضحية، فوصلت بالبحث إلى "لارا كركبة " ابنة الشهيد حسين على كركبة، أحد الذين استشهدوا فى قصف إسرائيلى على مركز بعلبك الإقليمى بـ"دورس" الماضى ومعه 13 آخرين.
"لارا" التحقت أيضا بالدفاع المدنى لتكمل رسالة والدها، وحينما سألتها عن السبب رغم أنها فقدت والدها، كانت إجابتها حاسمة رغم ما تحمله نبرات صوتها من مرارة تعجز الكلمات عن وصفها ، فقالت"استشهاد والدى عزز عزيمتى لاستكمال الرسالة، حياة الإنسان إن لم يضعها فداءً لوطنه وأهله ، أنا أعتبر كل لبنانى، هو واحد من عائلتى"
تقول "لارا" وهى من سكان بعلبك بمحافظة البقاع شرق لبنان، وهى واحدة من المناطق التى تعرضت لغارات كثيفة، إن يوم 14 نوفمبر لم يكن كغيره من أيام الحرب، ففيه انقلبت حياتها رأسا على عقب، وفقدت أعز ما لديها فى هذه الحياة، والدها. تسرد تفاصيل ذلك اليوم قائلة: "بابا استشهد وأنا بكلمه على التليفون!".
الشهيد حسين كركبة
طلبت منها العودة قليلًا لبداية الأحداث، فقالت كان الهجوم علينا كثيفا فى بعلبك وعشرات الضحايا يومياً، قرر والدى التطوع بالدفاع المدنى منذ بدء الحرب دعمًا للبنان، ومنذ ذلك الوقت كان يشارك يوميا فى مهمات الإطفاء والإنقاذ.
يوم الاستشهاد ذهب للمركز فى دورس استعدادا للانطلاق إلى إحدى المهمات، قبل الهجوم بدقائق اتصلت به للاطمئنان عليه، كان صوته مليئا بالحماس وهو يبلغنى أنه ذاهب فى مهمة.
لأول مرة يقول لى: "لا تتركينى يا لارا كونى قريبة منى دائما"، فى تلك الأثناء كنت أسمع تحليق كثيف للطيران بمحيط المركز، ثم دوى عدة غارات قال لى والدى إنها على مقربة من المنطقة، ثم سمعت صوتا عنيفا كأنه زلزال وانقطع الاتصال بعدها حاولت الاتصال مرة ثانية وجدته مغلقا، صرت مثل المجنونة لا أعلم كيف أصل لوالدى، لم يخطر ببالى أن العدو قصف المركز، توجهت مسرعة إلى مكان المركز، وبمجرد وصولى المنطقة وجدت شبورة من الغبار الكثيف تحجب الرؤية، اقتربت أكثر فأكثر ، فكانت الفاجعة إننى لم أجد المبنى بل وجدت حفرة عميقة بداخلها المبنى وقد أصبح ركاما، نزلت داخل الحفرة أنادى بأعلى صوتى "بابا أنت فين أنا لارا ..رد عليا، صرت أردد العبارة بشكل هستيرى ، دون جدوى، حاولت أرفع الردميات بيدى حتى جرحت"
تواصلنا مع بقية مراكز الدفاع المدنى؛ فأتت سيارات الإطفاء والإسعاف، صار البحث عن الضحايا لساعات طويلة، حاولت أتعرف على والدى بين الجثامين، لم أجده ، بعدها هرعت إلى مستشفى بعلبك الحكومى، وهناك كانت الصدمة ؛ حيث أدخلونى إلى ثلاجة الموتى لأبحث عن والدى بينهم، هناك لم تكن الجثامين كاملة، إضافة إلى أكياس سوداء متراصة تحمل أشلاء الشهداء، بدأت بالبحث بينها فلم أجد اسم والدى على أى كيس منها، فبدأت بفتح أدراج الثلاجة وأثناء بحثى وجدت جثامين غير مكتملة لزملائى فى الدفاع المدنى، منهم من رأيته صباح يوم الهجوم، صدمت ثم حاولت أستجمع قواى مجددا لأكمل البحث عن جثمان والدى، أثناء البحث وقعت عينى على يد ممتدة من أحد الأغطية وبها خاتم، كان هذا الخاتم لا يفارق يد والدى اليسرى، فمن هنا تعرفت على الجثمان، ثم تأكدت أنه والدى، حينها سُمرت بمكانى لبرهة من الوقت ثم ذهبت لإخبار أسرتى التى فوجعت بالخبر من الجيران قبل أن أصل إليهم، حاولنا إقامة عزاء لوالدى لكن التجمعات كانت ممنوعة ، وبالكاد تم دفنه والطيران يحلق فوقنا.
لارا
لارا أُصيبت فى مهمة ضمن 50 مهمة إنقاذ شاركت بها أثناء الحرب ، ورغم الإصابة أستمرت كمتطوعة فى الدفاع المدنى، يقينا بأن "لبنان سيحيا من جديد بدمائنا، الحرب لن تعود وعلى الجميع الإنصات لصراخنا إنها صرخة وجع من قلوب أحرقها الألم ، هكذا قالت لارا.
حاولنا من خلال هذا التحقيق تقديم نماذج لمن قدموا تضحيات غالية، لإنقاذ ضحايا الحرب، وتحملوا نصيبا فى فاتورة الحرب؛ لكن بالتأكيد هناك عشرات النماذج التى لم تتسع مساحة هذه الأسطر لسرد رواياتهم ورحلاتهم مع الألم من أجل إبقاء وطنهم حياً.. لتؤكد جميعها أن "بيروت ما بتموت "..
على المحمد أطباء بلا حدود
فاتورة حرب لبنان 2024