موقف وقع لى منذ سنوات،
بينما أجلس فى «كافيه» مفضل عندى فى مواجهة البحر، أقرأ كتابا ضخم الحجم بشكل غير مألوف، وجدت ذلك الشاب المراهق يتقدم منى مع بعض أصدقائه ويسألنى بفضول، وهو يشير للكتاب: «بعد إذنك؟ ما هذا الكتاب؟» ابتسمت وناولته الكتاب فبدا عليه الحرج، وهو يقول: أنا لا أجيد قراءة العربية،
قلت: كيف هذا؟ فسارعت صديقته بالتفسير قائلة بالإنجليزية: إنه كندى! ثم أردفَت وقد لحظت دهشتى من تناقض قولها مع الملامح الشرقية الواضحة للشاب: «لقد عاش عمره فى كندا ولا يستخدم العربية.. لا يستخدم سوى الإنجليزية،»
أدهشتنى رنة الفخر فى لهجتها، فابتسمت معلقا على المقطع الأخير من عبارتها: «هذا ليس شيئا يدعو للفخر.. أنا أتحدث ثلاث أو أربع لغات.. لكنى أعتز بلغتى الأم ولا أستخدم غيرها إلا عند الحاجة».
نظرة الدهشة فى عيون هؤلاء الشباب جعلتنى أرجع بالزمان لأكثر من ثلاث عقود، فقد نشأت فى بيت وجدت خالاتى فيه يكثرن من الحديث فيما بينهن باللغة الفرنسية، ووالدتى- بحكم دراستها وعملها- تستخدم الألمانية فى حديثها تليفونيًا لزميلاتها من الألمانيات فى العمل، وعندما التحقت بالدراسة فى كلية سان مارك فى العام 1985 كانت أغلب مواد الدراسة منذ مرحلة الحضانة وحتى نهاية الثانوية باللغة الفرنسية.
خشيت والدتى- حفظها الله-من تأثير ذلك على لغتى وثقافتى العربية، فاتخذَت منذ السابعة من عمرى قرارًا عظيمًا أشكرها عليه إلى يومنا هذا، فقد استغلت عملها بالتربية والتعليم فى البحث عمن يتولى العناية بلغتى العربية بشكل جيد، ووجدت ضالتها فى موجه للغة العربية هو الأستاذ متولى رحمه الله، الذى كانت مهمته واضحة: أن يجعلنى أتقن العربية قراءة وكتابة وفهما.. لم يكن الأستاذ متولى مجرد مدرس خصوصى يراجع معى المقررات المدرسية، بل كان لى مقررى الخاص: قراءة القرآن الكريم ليس من منطلق دينى فحسب بل أيضًا على سبيل إجادة النطق والتعامل مع مخارج الألفاظ والمفردات، وقراءة قصص الأطفال من سلسلة المكتبة الخضراء وسلسلة أنبياء الله لعبد الحميد جودة السحار، وحتى القصص المصورة مثل سلسلة تان تان، وروايات الشباب مثل سلسلتا رجل المستحيل، وملف المستقبل للدكتور نبيل فاروق، والموسوعات العلمية المبسطة للناشئين.. وقد آتت التجربة ثمارها فقد استطعت أن أبدأ القراءة لنجيب محفوظ فى سن الثامنة أو التاسعة، ومنذ تلك السن حرصت والدتى أن أزور معرض القاهرة الدولى للكتاب بشكل مستمر، وهى عادة باقية عندى حتى الآن.
استمر الأستاذ متولى رحمه الله فى رعايتى لغويا حتى سن الرابعة عشر، وإننى ممتن لتلك التجربة الرائعة وأدعو للتعلم منها.
أقارن ما فعلته والدتى معى بما صرت أصادفه الآن من أمهات «يفخرن» ضاحكات بأن: «ابنى يا حبيبى لا يتحدث سوى الإنجليزية».. وكأن استخدام المرء لغته الأم يعتبر نقيصة أو إعاقة لا سمح الله!
هل يدرك هؤلاء أن اللغة العربية بالذات تتمتع بمميزات تفتقر لها الكثير من اللغات الأخرى؟
من ناحية «العالمية»، اللغة العربية ليست لغة «شعب» بل هى لغة «أمة»، فهى اللغة الأولى- رسميا وشعبيا- لعدد كبير من الدول، تضم كل منها إثنيات وعرقيات وأعراق وأجناس متنوعة، وحروفها تستخدم فى عدد من اللغات غير العربية كالفارسية والأردية والكردية والتركية «قبل اعتماد الحروف اللاتينية بديلا»، وغيرها، وهى لغة الكتاب المقدس للمسلمين فى العالم الذى يختلف عن الكتب المقدسة الأخرى فى أن ترجمته لا تعتبر «قرآنا مترجما»، بل هى «ترجمة للمعانى»، فلكى يوصف القرآن الكريم بأنه كذلك ينبغى أن يكون مكتوبًا كما أنزل بالعربية، وهى تتميز بالاستمرارية بشكل واضح، حتى إنك إذا رجعت بالزمن وقابلت عربيا من القرن السادس الميلادى-وربما من قبل ذلك- ستتمكنان سريعًا من التفاهم بشكل فعال ومثمر، وهى إحدى اللغات العالمية المعتمدة من منظمة الأمم المتحدة، وهى العربية والفرنسية والإنجليزية والإسپانية والروسية والصينية، وهى معلومة يجهلها الكثيرون، فعندما يسألنى البعض عن عدد اللغات التى أجيدها، وأجيبه: «أربع لغات، العربية والفرنسية والإنجليزية والإسپانية»، يستغرب- بل ويستنكر- إننى قد حسبت لغتى الأم فيما أجيد من لغات، رغم أنه عندما يصيغ سيرته الذاتية للعمل يكتب لغته الأم إضافة للغات الأخرى التى يجيدها، ويشير فى سيرته الذاتية لكونها اللغة الأم.
وأزيدكم من الشعر بيتا، فإن تأثير اللغة العربية فى غيرها من اللغات لم يتوقف عند لغات الشعوب التى انضوت تحت حكم الدولة الإسلامية منذ الخلافة الراشدة، ومرورا بالأمويين والعباسيين، مثل اللغات الفارسية والهندية والتركية، أو لغات الشعوب التى احتكت بالعرب مثل الفرنسية والإسپانية والإيطالية والبرتغالية، بل تجاوز التأثير ذلك إلى لغات أخرى مثل الإنجليزية والألمانية والحبشية، وأحيلكم فى ذلك الموضوع للكتاب الرائع «أثر اللغة العربية فى اللغات الأخرى وتأثرها بها» للأساتذة عبدالقادر بنى بكر ورانيا سعيفان وشفاء الربابعة وديما الربضى، كما أنها لغة متجاوزة للعرقيات، فالعرب تميزوا بأنهم لم ينظروا للعربى أنه بالضرورة ذلك المولود لأم وأب عربيين، بل هو الذى يتحدث العربية، وهى معلومة يجهلها أولئك الذين يظهرون الازدراء السفيه للمكون العربى فى الهوية المصرية فيقولون: «لسنا عربًا بل نحن مصريون يتحدثون العربية» وهو قول مضحك ينم عن جهل فاحش، بل وبالنسبة للمهتم بالتاريخ، تعتبر اللغة العربية فى لهجاتها العامية بمثابة منجم ذهب لا ينضب أو مغارة كنز لا يفنى، ففى لهجات العرب تفاصيل عظيمة الثراء بأحداث تاريخية مهمة.. فمثلا، حين تقرأ عن تلك القبيلة العربية التى كانت فى لهجتها تستبدل حرف الألف بآخر حرف من الكلمة، فلا تقول: «محمد وأحمد» بل «محما .. أحما»، أو الأخرى التى تستبدل حرف العين بحرف الألف فى أول الفعل المضارع، وتبدل القاف إلى جيم، فلا تقول: أقول لك بل تقول: عَجول لَك.. تدرك أثر هجرات القبائل العربية إلى صعيد مصر على لهجات أهل الصعيد، وعندما تقرأ عن هجرات المغاربة فى العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية إلى الإسكندرية، وعن عادة المغاربة فى استخدام الجمع فى حديث الفرد، تفهم لماذا اعتاد السكندريون فى المناطق الشعبية الحديث بالجمع مثل: «أنا حنعملوا كذا.. أنا بنقول لك كذا»، وتدرك من وراء ذلك أثر المغاربة فى الثقافة السكندرية.
لن أتطرف فأطالب بتعريب كل كلامنا، فمن الطبيعى أن تستوعب اللغات المحلية كلمات من لغات أخرى، منها ما تعربه ككلمات مثل: قانون.. دستور.. قبطان.. إقليم.. ومنها ما تحتفظ به كما هو ككلمات مثل: كمپيوتر، تلڤزيون، إنترنت، بل ومنها ما تمنحه للغات أخرى ثم تسترده منها فتعربه مثل «دار الصناعة»-المقصود بها مصنع السفن الحربية- التى تأثرت بها بعض اللغات الأجنبية فسمتها «Arsenal» ثم عربناها إلى «ترسانة»، ولن أطالب بتعريب العلوم فهذا أمر له المختصون به وبتقرير ما يمكن تعريبه وما لا يمكن تعريبه، وفقا لاعتبارات تعليمية ومهنية
كذلك لن أطالب بالامتناع عن تبادل الحديث من حين لآخر بلغة أجنبية على سبيل تقوية مهارات المحادثة بها «وهو ما أفعله بالفعل مع بعض زملاء الدراسة الفرانكوفونية من التحدث أحيانا بالفرنسية ومع بعض أصدقائى الدارسين للإسپانية من التحدث بها من وقت لآخر»، لكن لا يعقل أن يكون كل حديثنا بلغة أجنبية عنا جميعا دون ضرورة لذلك».
فقط أطالب بالتخلى عن تلك النظرة الدونية، التى تدفع البعض للتفاخر بأن «ابنى حبيبى لا يتحدث سوى English».