الحضارة المصرية ليست مجرد صفحات في كتب التاريخ، بل عالم ينبض بالحياة، يحمل أسرارًا عن الإنسانية، الإبداع، والعبقرية التي كانت موجودة قبل آلاف السنين، لهذا يأتيها العاشقين من كل صوب وحدب، ومنهم هذا العجوز الإسباني الذي يحمل شغفًا لا يُضاهى بتاريخها العريق، فقصة بيدرو الذي قدم من بلاد الأندلس ناعيا نفسه "أبو دومة" لما يحمله من حب شديد لمصر وحضارتها وسحرها الفريد تستحق أن تروى للعالم بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة.
خرائط على الجدران
عندما تخطو قدماك منزل بيدرو، تشعر وكأنك تدخل إلى متحف حي للحضارة المصرية القديمة، فهذا المستشرق الإسباني والبالغ من العمر 80 عامًا لم يترك جدارًا أو بابًا - حتى باب الحمام - دون أن يغطيه بخرائط ومخطوطات توثق كل زاوية من أرض مصر القديمة.
لحظة الاطلاع على الخرائط
عندما تجولنا في منزل الخواجة الإسباني الذي دائما ينادي كل من يقف أمامه بـ"يا خبيبي"، ليس مجرد مكان للعيش فقط، بل بمثابة لوحة فنية عملاقة تعكس عشقه للحضارة المصرية، حيث تنتشر الخرائط الأثرية في كل مكان، وكأنها تخبرك عن أماكن المعابد والمعالم الأثرية على أرض مصر، ليس هذا فحسب، بل عندما تنظر إلى يمينك ويسارك تجد شاشات إلكترونية تستعرض صورا ومشاهد لمصر القديمة، فهو مشهد أشبه بخريطة تُخبر حكاية عشق لا ينتهي بين "أبو دومة" والحضارة المصرية، فبالنسبة لـ"بيدرو"، هذه الخرائط ليست مجرد رسومات، بل هي دليل على سنوات من البحث، الحب، والاكتشاف.
إبراهيم حسان وبيدرو
وعلى الرغم من أن بيدرو ليس مصري المنشأ أو ذات جذور محلية أصيلة لكنه مصري القلب والهوى، فيمكننا استعارة ما قاله عن هذا الوطن عندما تحدثنا معه "هي أرض الكنانة"، ما يؤكد أن أرض مصر بالنسبة له، ليست مجرد هواية أو اهتمام عابر، بل رسالة حياة، فهو يعتقد أن المصريين القدماء تركوا لنا إرثًا يجب أن نفهمه، نتأمله، ونُقدّره، وربما أيضًا يجد في هذه الرحلة المستمرة طريقة للتعبير عن امتنانه لهذه الحضارة التي ألهمته وغيرت مسار حياته.
جانب من اللقاء
الخواجة أبو دومة
عندما تحدثنا مع "أبو دومة الإسباني" عن سر حبه للحضارة المصرية وأكثر ما جذبه لهذا البلد؟ لم يجب! بل طرح علينا تساؤلًا عن أي من أصابعك تفضل في كف يدك؟ وكأنه يقول إن الحضارة المصرية مثل أصابع اليد، كل إصبع له دوره وجماله ولا يمكن أن تستغنى عن أيًا منهم، ما يؤكد عشقه لمصر بكل تفاصيلها.
جانب من اللقاء
رحلة الأستاذ الجامعي الإسباني مع الحضارة المصرية تستحق الاهتمام، لأنها أشبه بقصص المستكشفين والمستشرقين الذين أضاءوا جوانب من تاريخنا للعالم، تمامًا مثل هؤلاء الرحالة القدامى الذين جابوا مصر بحثًا عن المعرفة والجمال، ويبدو أن بيدرو يعيش تجربة مماثلة، لكنها تجمع بين الفضول العلمي والانبهار الإنساني بأسرار التاريخ المصري العريق.
إحدى الخرائط التي يقتنيها بيدرو
بداية الرحلة
الخواجة الإسباني بيدرو إجنازيو ديل كاستيلو الذي كرس عقودًا من حياته في مصر، جعل من الكتابة عن الحضارة المصرية رسالته الكبرى ومشروعه الأهم، فقد وَطِئت قدماه أرض الوطن في عام 1986 قادما من بلاد الأندلس باحثًا عن عمل مع إحدى الشركات الإسبانية التي أرشدته إلى زيارة مصر في النهاية، ليعمل بها مدرسًا للإسبان وأبناء الموظفين بالسفارة الذين يأتون لرؤية عظمة الحضارة المصرية، ومع الوقت أسس مدرسة داخل سفارة إسبانيا.
خريطة الأماكن الأثرية في منزل بيدرو
ورغم عدم علمه بمصر من قبل، إلا أن سحر هذا الوطن دخل قلبه منذ الوهلة الأولى، فيقول بيدرو في حديثه لـ"اليوم السابع: "أتيت إلى مصر عدة مرات للعمل، وفي المرة الأولى كنت لا أفقه شيء عن هذا البلد لكنني عملت معلما بإحدى المدارس الإسبانية، أعلم فيها الإسبان كل شيء، وفي يوم قررت تفقد شوارع المحروسة، وأتذكر أن أول مكان زرته كان مسجد الظاهر بيبرس الذي خطفني تصميمه وعظمته من الداخل، وعندما وجدت عليه رقم – رقم الأثر - قررت البحث عن باقي الأرقام الأخرى للآثار المصرية".
إحدى جولات الإسباني بيدرو
اللغة والاندماج
وبلغته العربية الخواجاتية يواصل بيدرو حديثه عن بداية رحلته في مصر، بعدما أثبت أن اللغة ليست حجر عثرة بل جسر يربط الثقافات بين الشعوب: "أنا إسباني الجنسية وعلمت أن كثير من الأندلسيين مدفونين هنا في مصر، بعدها قررت تعلم اللغة العربية لأنني لم أكن أتحدثها نهائيا، في البداية تعلمتها بالفصحى وكانت تثير ضحكات المصريين إلا أنني غيرت هذا وبدأت في تعلم المصرية العامية حتى أتعامل بشكل سلس مع كل الناس وأعيش حياتي في الشوارع مثل أي مواطن مصري".
حديث بيدرو مع بعض المصريين في صعيد مصر
ومن أجل أن يتأقلم ويتجاوز الحدود الثقافية في أرض النيل قرر "بيدرو" أن يتزوج من أهل المحروسة، فيقول بلهجة مليئة بالحميمية: "تزوجت من فتاة مصرية في عام 1990 أثناء تواجدي في مصر، لكننا لم ننجب أي أطفال، وأتذكر أنه عندما نزلت مسجد الظاهر بيبرس سُرق حذائي عندما تركته على الباب، وظللت أسأل أين الحذاء؟ أين الحذاء؟ وضحكت على ما حدث لي.. لكنني أحببت مصر كثيرا وبعد تفقدي باب الشعرية وشارع بورسعيد قلت لنفسي ما هذا الجمال؟ وقررت أن أستكشف كل شيء في مصر بعد ذلك".
شرارة الانطلاق
مسجد الظاهر بيبرس كان الشرارة الأولى لانطلاق "الخواجة أبو دومة" ليجوب 27 محافظة مصرية باحثا عن أرقام الأماكن الأثرية "الإسلامية والفرعونية" ليدونها بشغف وحب، فكان مشروعه الأول والأهم الذي كرس حياته للعمل فيه، إذ يقول: "مسجد الظاهر بيبرس كان يحمل رقم 1 في دليل الأماكن الأثرية، وبعدما رأيت ذلك قررت البحث عن باقي الأرقام التي تحملها الآثار في مصر، أيًا كانت تقع في الجمهورية".
إحدى جولات بيدرو
عندما يتحدث بيدرو عن الحضارة المصرية القديمة، لا تشعر أنك تقف أمام مؤرخ فحسب، بل يجذبك لتنصت إلى كلمات عاشق ينسج الحكايات بروح متيمة بحضارة لا مثيل لها، فهذا الإسباني، يأخذك في رحلة سحرية عبر أزمنة مصر القديمة، فينقلك تارة بين أروقة المعابد وجدران المقابر وكأنه كان شاهدًا على تلك العصور، فأسلوبه الشيق وتفاصيله الدقيقة تضيء الجوانب الخفية من حياة المصريين القدماء مما يجعل التاريخ ينبض بالحياة.
بالإصرار والشغف، كرس الخواجة بيدرو حياته لهذا المشروع الضخم، ولم يكل أو يمل من السفر بين أرجاء مصر فصال وجال لتوثيق الحضارة بتاريخها وحقبها، حتى يسجل أدق التفاصيل عن المعالم الأثرية كافة، ولا يزال إلى الآن يواصل العمل ليل نهار رغم بلوغه الثمانين عاما، ويشرح لنا قائلا على خرائطه التي بحوزته في منزله الصغير: "سجلت كل هذه الآثار التي تقع في القاهرة التاريخية على مدار السنوات الماضية، وأنا أقوم بهذا العمل بحب وأشعر باستمتاع عندما أسافر من مكان إلى آخر لتوثيق كل الأماكن الأثرية في مصر".
البحث داخل الخرائط
رحلة وتوثيق وحب
بالنسبة له، لا يمثل هذا العمل على أرض مصر مجرد وظيفة للتربح، رغم عمله في جامعة برشلونة أستاذا لعلم النفس حتى بلوغ سن التقاعد، بل يعتبره "بيدرو" رسالة سامية تعبر عن حبه العميق للثقافات المختلفة وسعيه للحفاظ على التراث الإنساني، فيقول: "هذا عملي وأنا أحبه جدا في مصر، وأرفض حتى الآن ترجمة ما أقوم به في كتب خاصة بي، رغم أنني إذا قمت بهذا الأمر لتكسبت أموال طائلة من وراء ذلك، لكن أمارس هذا عن حب، لأن هذا الأمر يشعرني بالسعادة فقط، لهذا أستمر فيه ولن أتوقف".
انطلق بيدرو في رحلته لتوثيق وتدوين الأرقام والحقائق المرتبطة بالآثار المصرية في جميع محافظات الجمهورية، لكنه لم يكتفي بالحصول على المعلومات من الكتب التاريخية أو الصور أو حتى من الأشخاص والمؤرخين فقط، بل وسع دوائره للحصول على بيانات أكبر من خلال الأفلام المصرية القديمة، حيث يقول: "أسجل كل الأفلام المصرية منذ بداية تصويرها، على أجهزة اللاب توب الخاصة بي، حتى أرى أي أماكن أثرية جديدة كي أزورها وأوثقها بنفسي في أماكنها الأصلية، وأدونها في سلسلة معلوماتي عن الآثار المصرية، وأذهب إليها حتى إن كانت في أبعد الأماكن".
إحدى جولات الإسباني بيدرو
وبين منزله المليء بالخرائط وأبحاثه الدقيقة، يثبت بيدرو أن الشغف الحقيقي لا يعرف حدودًا أو جغرافيا، فهو لا يوثق التاريخ فحسب، بل يعيشه بنفسه بعقل يبحث عن الحكمة بين الأحجار والنقوش، حيث قال عن قصص حبه لكل موقع أثري زاره في مصر: "مصر ليس لها آخر ودائما تعطي وتقدم جديدا، وكل أثر هو شاهد على عبقرية لا تتكرر في هذه البلد، وأنا طوال رحلتي وثقت نحو 10 ملايين مكان أثري في مصر بمشروعي وهناك لا يزال 10 ملايين مكان لم يتم اكتشافه بعد".
كتابات بيدرو ليست مجرد توثيق للآثار، بل دعوة مفتوحة للعالم لاكتشاف عظمة الحضارة المصرية القديمة بعين عاشق يعرف كيف يسرد التفاصيل بأسلوب يمزج بين الدقة العلمية والخيال الساحر، أما عن شعوره بالسعادة الغامرة كلما اكتشف معلومة جديدة عن الآثار المصرية، فيقول: "أنا أعتبر نفسي من الباطنية في القاهرة التاريخية، وشغفي لن يتوقف رغم أنني زرت كل المحافظات المصرية، وأستعد لزيارتها مرة أخرى في سبيل اكتشاف أماكن أثرية جديدة".
إبراهيم حسان والخواجة الإسباني
سفير التاريخ المصري يعود للأندلس
وبينما يحزم بيدرو الإسباني حقائبه استعدادًا للعودة إلى بلاده خلال أيام، تغمره مشاعر متناقضة بين الحنين لإنجازاته التي كرس سنوات وسنوات من عمره لها في مصر، والرغبة في قضاء أيامه الأخيرة بين أسرته وأبنائه، إلا أنه لا يظهر على ملامحه أي شعور بالاستسلام للزمن الذي بدأ يفرض عليه التوقف، فيقول بنبره حزينه: "سوف أسافر خلال أيام إلى إسبانيا لكن لنا عودة لمصر مرة أخرى، لاستكمال الرحلة، وكل ما قمت به في دماغي وعقلي إلى الأبد".
بيدرو أثناء الحديث
ومع اقتراب الإسباني لطي صفحة هذه الرحلة الطويلة، يرى أنه يترك وراءه إرثًا من الجهد والإبداع المنظم، محفورًا في كل أثر مصري قام بتوثيقه، فمصر بالنسبة له لم تكن مجرد مكان، بل كانت شغفًا ورسالة وحلمًا وقع أمامه بالصدفة التي رتبت لها الأقدار، وعندما سيرحل عن هذا البلد سيظل يحمل معه ذكريات لا تُنسى وحكايات ستظل تُروى إلى كل من يؤمن بأن التاريخ ليس ماضيًا فحسب، بل هو طريقنا لبناء مستقبل أكثر وعيًا وإنسانية.
جولة لبيدرو بالأماكن الأثرية
هذا الإسباني الذي يرى في كل حجر مصري قصة، وفي كل نقش نافذة إلى الماضي، يؤكد أن التاريخ هو مفتاح المستقبل، لهذا يحمل في قلبه رسالة لكل الأجيال الجديدة بأن الحفاظ على التراث ليس مجرد واجب، بل رسالة سامية يجب حملها إلى كل الأجيال القادمة وما يلاحقها من أجيال جديدة.
لقاء بيدرو على صفحات اليوم السابع