مع نهاية السبعينيات وبداية حقبة ما بعد الانفتاح الاقتصادى، ظهر جيل جديد من المخرجين يُسمَّى بمخرجى "السينما الواقعية"، من أمثال عاطف الطيب وخيرى بشارة ومحمد خان وداود عبد السيد، سينما كانت قائمة على التعبير عن العديد من القضايا والهموم الاجتماعية، وقضية الصراع الطبقى فى "المظاهر"، سينما تقدم حلولاً واقعية للأزمات المجتمعية عبر التحرك الجمعى، متبنية أفكار أقرب إلى الفكر الاشتراكى التى آمنوا به وعبروا عنه فى أعمالهم الفنية.
وبالتأكيد كانت تلك السينما الجديدة تحتاج لمن يصوغ أفكارها كتابةً، ويبحث عن لغة جديدة للتواصل مع جمهورها ويحول واقعهم الاجتماعى المؤلم إلى شخوص وعوالم يمكن تقديمها سينمائيا، وكان من رجال تلك المرحلة السيناريست الكبير بشير الديك، وكان أحد أبرز من أعاد صياغة اللغة السينمائية، لتصبح أكثر قربًا وصدقًا فى التعبير عن الناس، سينما تعكس واقعاً قد يبدو مألوفاً بعيدة عن الاستعراض البصرى أو تعقيد الحبكات، طرح من خلالها منظوره الخاص للكثير من المعانى الإنسانية.
من البداية كان الناس والبسطاء، هم محور اهتمام بشير الديك الأساسى فى كتاباته الدرامية، قادرًا على نسخ خيوط الواقع، محاولا رصد تفاصيل حياتهم البسيطة، الكادحين فى الحياة الذين يواجهون الصعوبات يوميا ولا يملكون الرفاهية، بالتأكيد تأثر بشير الديك بفترة الحرب والتقلبات المجتمعية فى هذه الفترة، وقدم أول أفلامه الروائية "مع سبق الأصرار" (1979)، والذى تحدث فيه عن الأحوال المجتمعية فى فترة ما بعد الحرب وتأثيرها الاقتصادى، فجاء وكأنه تجربة ذاتية ممزوجة بالواقع، فكان بمثابة مرآة حقيقية لواقع مؤلم، ونموذج لصورة فنية ملهمة، وانطلاقة لكاتب لديه مفردات جديدة لصياغة اللغة السينمائية متوافقة مع الواقع الاجتماعى.
لكن البداية الحقيقية والنقلة الكبيرة فى مشوار الديك كانت بعد كتابته فيلم "سواق الأتوبيس" (1982)، مع المخرج عاطف الطيب، وشكل الاثنان ثنائيا فنيا رائعا، كان قادرا عن صياغة صورة المجتمع سينمائيا بلغة عذبة وصورة أشبه للواقع، صورة تختبئ في تفاصيلها مأساة أكبر، مأساة مجتمع بأكمله، وكان أبرز ما يميز تلك القصة ليس حبكتها فقط، بل قدرتها على الغوص في عمق التحولات الاجتماعية التي اجتاحت مصر خلال تلك الفترة، مقدما نقدا شديدا للانفتاح الاستهلاكي الذي شكّل إمبراطورية من اللصوص، وتسبَّب في انحدار أحوال الطبقة الوسطى.
في عام 1983، قدم بشير الديك مع المخرج محمد خان تجربة هامة في مسيرتهما بالاشتراك مع الزعيم عادل إمام، من خلال فيلم "الحريف" والذي كان بمثابة تشكيل وعي الجيل الجديد من مخرجي الواقعية، متبنيا أفكارا فلسفية ذات نزعة ماركسية تعبر عن مفهوم "اغتراب العمل الاجتماعي" إذ كان يرى ماركس أن الإنسان يغترب عن نفسه وفاعليته الإنتاجية الخلاقة في العمل الاجتماعي عندما ينتج السلعة، فهو ينفصل عن ذاته وإنتاجه بعد إتمام عملية الإنتاج بفعل علاقات الإنتاج الرأسمالية، باختصار نجح بشير الديك في أن يغوص بنا داخل الشوارع المصرية، متجولا داخل أزقتها، مصورا الصراع الحاد والواقع المؤلم التى يحيا بداخله الناس محاولين الوصول إلى بر الأمان.
مع دخول التسعينيات كان عاطف الطيب وبشير الديك قد بلغا مرحلة من النضج، وبدأت تشتبك أكثر وأكثر مع الواقع، فقدما سويا "ضد الحكومة" (1992) الذي كان بمثابة تجسيدا للأمل والألم، ومحاكمة علنية للنظام الاجتماعي والسياسي، محاكمة جريئة قُدّمت عبر نصّ بشير الذي واجه السلطة بمباشرة لم تكن مألوفة، معتمدين على سردية واقعية جدا من خلال حوادث الطرق والقطارات التي يتعرض لها المواطنون يوميًا، مقدما إدانة واضحة للقوانين والإجراءات الحكومية الروتينية، والتي تتسبب في كثير من الأحيان في فقد الإنسان لآدميته.
في تلك الفترة أيضا قدم بشير الديك مع عاطف الطيب ونور الشريف، فيلم "ناجي العلي" (1993)، وعلى الرغم من أن الفيلم يقدم معالجة لقصة واحد من رواد فن الكاريكاتير الصاخب في الوطن العربي، الفنان المغدور الذي اغتيل بسبب انتقاده للاحتلال والمقاومة المدجنة، لكنهم أيضا لم يبتعدوا أيضا عن الواقع مشتبكا معه اجتماعيا وسياسيا، فلم يكن سوى ناجي العلي صورة للمواطن الحانق على المشهد السياسي وفساد السلطة، منتقدًا كراهية السلطة للنقد وحصارهم للحرية، وهو قدح لا يقتصر على منظمة التحرير بالطبع.
بشكل عام كانت سينما بشير الديك مليئة بالتساؤلات محاولا البحث عن منافذ هواء جديدة لفهم العالم، من خلال إعادة صياغة البسطاء والكادحين في واقعهم اليومي القاسي، ففي أعماله نحن إزاء مجموعة من الشخصيات المهمشة، ذات الوظائف المختلفة، من قبيل السائق والموظف والمختلس والقواد، بأسلوب كاريكاتوري صاخب، ليحقق الملاءمة بين شكل الشخصية ومضمونها، ولعل في الكثير من أعماله خاصة في فترتي الثمانينات والتسعينيات تغرق في البؤس وتشعر باللامعنى وعبثية الحياة، محاولا من خلال كتابته الأقرب إلى الروائية استعادة المعنى المفقود، يستخدم فيها آليات دفاع مختلفة عن هؤلاء البسطاء، وإن كان انتابه في بعضها أحلام اليقظة مفرغا فيها رغبات مقموعة محاولا التخفف من ثقل الواقع المؤلم.
في النهاية كان بشير الديك دائما في كل أعماله السينمائية والتليفزيونية، أكثر حساسية وعمقًا فى تقديم حياة البسطاء والمهمشين، واستطاع أن يعبّر عنهم ويرسم حياتهم بصدقٍ وواقعية شديدين، وأن يبقى في كل لحظة من حياته مخلصًا للكتابة الفريدة عنهم وعن واقعهم، من خلال أعمال تطرح أسئلة التغيير والفقر والقاع الاجتماعي والمرأة والحياة والموت وسواها من المشكلات الوجودية والقضايا الأخلاقية التي عاناها المجتمع المصري، بالحفر داخل عوالمه والغوص فيها، والأهم أن الديك عاش دائما يشبه أبطاله، كأنه أحد أبطال قصصه، رجل بسيط يحمل في صمته حكايات أكثر مما يمكن أن ينطق به، يشبه كل من كتب عنهم. وجهه الحنون، ونظرته التي تُشعرك بأنه يعرف عنك أكثر مما تظن، كانت كلها انعكاسًا لروح شخص عاش وسط الناس ولم يغادرهم أبداً.