تدخل الحرب فى غزة شهرها الخامس عشر، وتمثل إحدى أطول المواجهات فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وأكثرها تشابكا وتعقيدا وإثارة للجدل، ولم يكن أكثر المحللين تشاؤما يتوقع أن تستمر هذه الحرب لأكثر من عام، وإن كانت بعض التحليلات ذهبت إلى أن الحرب قد تستمر لعامين وتمثل تغييرا كبيرا فى بنية الصراع، ومستقبل السلام والحرب.
ومن هنا يفترض النظر إلى نتائج مباحثات وفد قيادة حركة حماس التى انتهت فى القاهرة، وأعلن أنها تضمنت حوارا معمقا لحماس مع حركة فتح حول تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة على طريق تطبيق ما تم التوافق عليه وطنياً من اتفاقات شاملة لتحقيق الوحدة الوطنية والإنهاء الكامل للانقسام وآثاره المتعددة، وموافقة الحركة على المقترح المصرى حول تشكيل لجنة الإسناد المجتمعى عبر آليات وطنية جامعة، بما قد يعنى خطوة للتعامل مع واقع فرضته هذه الحرب، والتحولات فى مواقف الأطراف الإقليمية من انسحابات وتقاطعات غيرت من شكل ومضمون المواقف، هناك تغيير فى الإدارة الأمريكية وحرب أخرى فى أوكرانيا مع دعم للاحتلال ونتنياهو، وما تعكسه عودة دونالد ترامب، من آثار على الحرب والإقليم، وأيضا توازنات الدعم والنفوذ.
ومن المفارقات أن الاحتلال الإسرائيلى بما يرتكبه من جرائم حرب وتجويع وحصار، يمارس نوعا من الابتزاز للأطراف المختلفة بما فيها الولايات المتحدة، ويصدر أن إسرائيل إنما ترد على العملية التى جرت فى 7 أكتوبر 2023، والتى تمثل إحدى أكبر الضربات التى تلقتها إسرائيل على مدى أكثر من نصف قرن، وسعى الاحتلال ونتنياهو إلى تسويق هذه الصورة وإقناع الغرب والولايات المتحدة أنها الطرف المعتدى عليه، بل إنه استغل حالة النشوة بالانتصار من قبل فصائل فلسطينية لصناعة مأساة للاحتلال والتغطية على حقوق الفلسطينيين المسلوبة، ورسم سيناريو الرعب والخوف داخل إسرائيل، واستعمال دعايات الانتصار الأولى من قبل منفذى عملية 7 أكتوبر لترويج مزاعم التعرض للعدوان وليس العكس.
وبعيدا عن المواقف المختلفة، فإن ما تم طوال 14 شهرا تضمن تعمدا من الاحتلال، لتدمير شامل لغزة، وجعلها أرضا غير قابلة للحياة أو استيعاب مواطنيها الذين غادروا منازلهم إلى مناطق أخرى وينتظرون توقف الحرب وإعادة الإعمار ليعودوا إلى ما قبل الحياة الطبيعية.
ومن خلال المبالغة يسعى الاحتلال إلى التعتيم على الحقيقة التى تدور علنا على مدى عقود، وهى ليست فقط استمرار احتلال الأراضى الفلسطينية لكن أيضا التوسع فى الاستيطان وطرد الفلسطينيين من منازلهم وأراضيهم ومصادرتها.
كل المؤشرات بعد 7 أكتوبر من حجم العملية ضد الاحتلال أكدت أن الحرب هذه المرة تختلف عن جولات ومواجهات سابقة، ولا يوجد فى السياسة «لو» لكن من الضرورى دراسة نتائج أى تحرك وأهدافه، مع أهمية تقدير الوقت المناسب لتنفيذ عملية عسكرية وبحث احتمالات تداعياتها، وأهدافها السياسية، التى يفترض تحقيقها، وإلا كان الأمر مجرد قفزات فى الظلام، وطبيعى أن تكون هناك مساحة لدراسة ما تم بعيدا عن العواطف والمبالغات التى تغطى على الطريقة السليمة فى التفكير، حيث يفترض اختيار وقت التحرك، أو قبول العروض، وتوظيف السلاح لخدمة السياسة، وهو واقع نظرية تتطلب إرادة حقيقية وليس استمرار تغييب التفكير والاكتفاء بالأوهام.
وفى تقييم ما تم أن منفذى طوفان الأقصى راهنوا على أطراف إقليمية أو قوى مختلفة مثل إيران وحزب الله، وكشفت الممارسة عن أخطاء فى التقدير، حيث خاض الاحتلال مواجهة فى الشمال مع حزب الله، سبقتها عمليات اختراق وهجمات واغتيالات، انتهت بأن انشغلت جبهة حزب الله بمواجهة وانتهت بوقف لإطلاق النار، ومن قراء الموقف، فإن الاتفاق تم بناء على تحركات سياسية للطرفين، بجانب انسحاب واضح لإيران من الصورة الداعمة التى راجت فى بدايات الحرب، وبالتالى فقدت جبهات المقاومة غطاء ظلت تتستر خلفها على مدى سنوات، ومن حيث أعلن حزب الله أنه دخل لإسناد غزة، فقد عجز عن هذا الإسناد بل ربما عجز عن إسناد نفسه، وتضاعفت الخسائر فى الطرفين من دون عائد سياسى أو عسكرى يمكن توظيفه لأكثر من الدعاية والتفاخر اليومى.
وفى مقابل دعم أمريكى مستمر وإقبال جديد من ترامب هناك انسحاب إيرانى، لأهداف سياسية، وتوقعات بإعادة بناء علاقات طهران مع الغرب والعالم، بما يدعم مصالحها، وهو ما يضاعف من تغييرات الجبهات والدعم، مما قد يدفع الى ضرورة استعادة المبادرة، ودعم كل جهود وقف الحرب، وأيضا فيما يتعلق بالفصائل، أهمية لم الشمل وقبول مساعى المصالحة وإنهاء انقسام أثبتت التجارب أن خطره قد يفوق الاحتلال، بل ويساعد الاحتلال على تنفيذ أغراضه.
وتظل المصالحة الفلسطينية هى الخطوة الأصعب، والتى بذلت فيها مصر جهودا على مدى سنوات، ومن هنا تأتى أهمية لقاءات وفد حماس التى انتهت بالقاهرة، وتضمنت لقاءات مع فتح وأطراف وطنية متنوعة، قد تكون مقدمة لتغيير فى تقديرات المواقف، بشكل يتعامل مع الواقع، وليس مع افتراضات .